28 - 08 - 2025

الرب سوف ينتقم من أمريكا

الرب سوف ينتقم من أمريكا

(الرب سوف ينتقم من أمريكا إذا تخلت عن دعم إسرائيل). هذه ليست كلماتي ولا كلمات نجعاوي أبو خرطوش شيخ الخفر في قريتنا المنسية، ولكنها كلمات السياسي الأمريكي الشهير وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية كارولينا الجنوبية المتطرف الصهيوني (لينزي غرام) وبالمناسبة صفة (صهيوني) لقب يعتز به الأمريكان وليست لفظة مسيئة بالنسبة لهم، فقد صرح المخبول بايدن بأنه صهيوني وكذلك وزير خارجيته بلينكن. 

أعلن السيد غرام على الملأ أن الرب يحمي أمريكا فقط لأنها تساند إسرائيل، لدرجة أن أحد الصحفيين سأله متهكماً: (هل الرب سينزل على أمريكا غضبه لو لم تساند حكومة نتنياهو المتطرفة؟) إن تصريح غرام لم يأت من فراغ ولذلك أريد أن أؤكد لكل من سيقرأ هذا النص أن الأمريكان لن يتخلوا عن مساندة ودعم إسرائيل إلى الأبد حتى لو أبادت إسرائيل كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين جميعاً. القارئ للتاريخ الأمريكي يدرك هذه الحقيقة الساطعة ولذلك لا داعي للعيش في الأوهام وعقد الآمال على تدخل (أبو حنان) أو ويتكوف الصهيوني (المنقذ الأمريكي) لحقن دماء الفلسطينيين في غزة والضفة، فالكاوبوي شريك في الجريمة ويريد ترحيل الفلسطينيين بغض النظر عن البروباجاندا الإعلامية ولقاءات ومباحثات وفود السلام الأمريكية المفبركة والزيارات المكوكية التي تشبه قصص أفلام هوليود أو أفلام الخيال العلمي. 

لن يتخلى رعاة البقر المسيحيون البروتستانت الصهاينة المتطرفون عن دعم إسرائيل لأنهم يرون في إسرائيل امتداداً لهم – ليس امتداداً استعمارياً فقط وإنما امتداد لأفكارهم الدينية المتطرفة - فهم يؤمنون أن فلسطين هي أرض اليهود وأن العرب دخلاء وبقايا شراذم من الهمج جاؤوا من الصحراء واغتصبوا أرض الميعاد في غفلة من التاريخ. 

عندما بدأت موجات الهجرة الأوروبية الباكرة لأمريكا في أواخر القرن الخامس عشر كان البروتستانت الذين تعرضوا للاضطهاد من أتباع الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا يمثلون الغالبية العظمى من المهاجرين وكان يرافقهم في الهجرة والاستيطان بعض الجاليات اليهودية. 

يومئذ رأى المستعمرون البروتستانت أنفسهم مثل اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد في مصر ثم هربوا منها إلى أرض الميعاد حسب السرديات التلمودية. هذا الارتباط بين البروتستانت واليهود وصل لذروته بعد نشوء الحركة الصهيونية وأصبحت طوائف بروتستانتية عديدة أكثر صهيونية من اليهود أنفسهم. ومن هنا ظهرت مرويات تاريخية تشير رمزياً إلى أن أوروبا هي (مصر) وأن البابا الكاثوليكي هو (فرعون) الذي اضطهد البروتستانت، وأن المحيط الأطلسي الذي عبرت من خلاله سفن المستوطنين إلى أمريكا يشبه (البحر الأحمر) الذي فر عن طريقه اليهود من مصر، وأن أمريكا هي أرض الميعاد التي وهبها الرب للبروتستانت بعدما ذاقوا الأهوال وتعرضوا للاضطهاد في أوروبا.

لقد تنامى الاستيطان الأوروبي في العالم الجديد (أمريكا) في ظل الخرافات العديدة ذات المنشأ التوراتي والتلمودي.  لذلك قام المستوطنون البيض بإبادة أكثر من 70 مليون من السكان الأصليين في أمريكا على مدار 300 عام من القتل المتواصل وفق العديد من الدراسات الموثقة حتى يستعيدوا أرض الميعاد التي وعدهم بها الرب، كما وعد الرب اليهود بأرض الميعاد في فلسطين وما حولها. 

لقد كانت الحرب بين المستوطنين وسكان أمريكا الأصليين حرباً دينية تشبه الحرب الدائرة حالياً في فلسطين، لأن المستوطنين سواء في أمريكا أو في فلسطين يعتبرون الأرض التي اغتصبوها حقاً إلهياً مقدساً منحه الرب لهم. كانت الحرب غير متكافئة تماماً كما يحدث في غزة الآن حيث ظل الهنود الحمر يقاتلون بالسهام والنبال وغيرها من الأسلحة البدائية، بينما تدفقت الأسلحة الحديثة من أوروبا قادمة على سفن موجات المستوطنين التي لم تنقطع طوال سنوات الاستيطان التي امتدت لثلاثة قرون.  لذلك ثمة تشابه كبير بين الأسباب التي أدت لإبادة السكان الأصليين في أمريكا على يد المستوطنين الأوروبيين البيض والتطهير العرقي الذي يحدث في غزة على مدار الساعة منذ قرابة عامين. 

في سياق متصل نشأت أمريكا بناءً على خرافات دينية تماماً مثل إسرائيل، ومن بين هذه الخرافات أسطورة (الأرض الموعودة) وأسطورة (الحلم الأمريكي) وأسطورة (القدر المحتوم) التي تدعي أن الرب جاء بالمستوطنين لأمريكا بلاد الهنود الوثنيين لنشر مبادئ المسيحية البروتستانتية والتخلص من رفقاء الشيطان (السكان الأصليين) ونشر الحضارة الغربية في بلاد البرابرة والهمج، لأن البروتستانت يمثلون (الخير) و (النور) والهنود الحمر أصحاب الأرض يمثلون قوى (الظلام) و (الشر) لذلك يجب إبادتهم وفي ذلك تقرب للرب. وهذه السردية العنصرية المتوحشة هي التي يرددها أنصار اليمين المتطرف في إسرائيل حالياً من خلال شيطنة كل سكان غزة واعتبارهم برابرة ومتوحشين يجب قتلهم، ويتفق معهم أتباع (أبو حنان) وغالبية أعضاء حكومته.

 علاوة على ذلك كان المستوطنون الأمريكان يؤمنون بأن أمريكا بلد بلا حدود ومن حقها التوسع العسكري والاستعماري وفرض هيمنتها على الاقتصاد والتجارة في جميع أنحاء العالم، وعلى نفس المنوال تحدث قادة إسرائيل عن إسرائيل الكبرى وعن تغيير حدود الشرق الأوسط. 

على ذات الصعيد يستنسخ اليمين المتطرف التجربة الأمريكية مستعيناً بتعاطف المسيحيين الصهاينة الذين يشغلون جميع المناصب تقريباً في حكومة الكاوبوي الحالية ويسيطرون على الكونجرس الأمريكي (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) وهؤلاء - ومعهم أكثر من 60 مليون من سكان ولايات الحزام الإنجيلي في الجنوب والوسط والغرب الأمريكي - يؤمنون بأن المسيح لن يعود سوى بعد اكتمال إسرائيل الكبرى من النيل للفرات وطرد كل الفلسطينيين من الأرض المقدسة وإعادة بناء هيكل سليمان. وكل هذه المعتقدات تستند لأساطير دينية توراتية مشكوك في صحتها يتم توظيفها حالياً لخدمة أغراض توسعية واستعمارية مشبوهة، وإبادة شعب بأكمله على مسمع ومرأى من قادة المجتمع الدولي - الله يرحمه - ومعهم الحاج محمود عباس (أبو مازن) أطال الله في عمره الذي لم يحرك ساكناً وكأن غزة تقع في جزر الكاريبي وليست أرضاً فلسطينية. على المستوى الشخصي لا أجد أي تفسير لهذا السلوك الغريب/العجيب/المريب/المعيب من عباس وسلطته التي اكتفت أحياناً بإدانة المذابح والتجويع في غزة (بأشد العبارات). وبصراحة لو لدى أحدكم تفسيرا منطقيا للفرق بين (الإدانة) و (الإدانة بأشد العبارات) أكون شاكراً لو تواصل معي وألقى الضوء على هذه الأحجية.   

لقد نجحت إسرائيل في تمزيق صفوف الفلسطينيين وتعميق شتاتهم بعدما سمحت لحركة حماس بالفوز في الانتخابات في غزة والسيطرة على مقاليد الأمور، وتم خروج أو طرد السلطة الفلسطينية من غزة، والآن وبعدما قامت حماس بدورها في خدمة المشروع الصهيوني الاستيطاني وتدمير القطاع وتوسيع الفجوة بين الضفة وغزة حان الوقت للانقضاض عليها والتخلص منها بعد تعاون مع حكومة إسرائيل ومع نتنياهو شخصاً استمر لسنوات عديدة.

الآن اكتملت الصورة وأصبح المسرح جاهزاً لتهجير معظم سكان غزة للخارج والإبقاء على نصف مليون مواطن فقط يتم حشرهم في (غزة الجديدة) في المنطقة الصغيرة المحصورة بين محور موراج ومدينة رفح على الحدود المصرية - حسب التسريبات الصحفية - مع إعادة الاستيطان فيما تبقى من غزة التي تقل مساحتها الإجمالية عن مساحة مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان الأمريكية. 

يهدف الصهاينة في إسرائيل لتقليص مساحة غزة وطرد ما يربو على مليون و700 ألف نسمة خارج الحدود من أجل حماية مستوطنات غلاف غزة، التي اقتحمتها ميليشيات حماس يوم 7 أكتوبر 2023. وسواء كان الهجوم بتخطيط من حماس أو كانت إسرائيل على دراية به فقد كان هذا الهجوم في الحقيقة صادماً للوعي الجمعي الإسرائيلي، لأنها المرة الأولى منذ عام 1948 التي تتعرض فيها المستوطنات لهجمات على هذه الشاكلة. 

ولا ننسى أن السكان الصهاينة في هذه المستوطنات قد جاؤوا من الشتات بناءً على اتفاق مع الحكومة الإسرائيلية لتحقيق (الحلم الصهيوني) بعدما وعدتهم الحكومة بتوفير (الرخاء الاقتصادي) والرفاهية الاجتماعية لهم وكذلك توفير (الأمن) و (السلامة) و(الاستقرار) لأن الجيش الذي لا يقهر يحميهم. لقد كانت أحداث أكتوبر 2023 بمثابة زلزال هز أركان إسرائيل من الداخل.

 لذلك سارع الأحمق بايدن بالمجيء على الفور لإسرائيل وحرك البوارج وحاملات الطائرات وأرسل القنابل خارقة التحصينات الخرسانية لتُضرب بها المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والأسواق ومحطات توليد الكهرباء والمباني المأهولة بالسكان المدنيين وخيام النازحين المصنوعة من البلاستيك وأكشاك الهاربين من القصف الوحشي والأحزمة النارية، كما أرسل (أبو حنان) أحدث ما توصلت له الصناعات الحربية الأمريكية من قاذفات إف 35 وإف 16 وإف 15 وطائرات الأباتشي والطائرات بدون طيار التي تلقي بصواريخ هيلفاير (نار الجحيم) المخصصة لتدمير الدبابات لتحرق أجساد الأطفال والصحفيين. وبالمناسبة كلمة (أباتشي) كانت اسم قبيلة من قبائل الهنود الحمر تعرضت للإبادة على يد المستوطنين الأوروبيين الإسبان ثم الأمريكان. وقد تم إبادة القبيلة بناء على أسطورة (الهندي المتوحش) عدو الحضارة وهي تشبه أسطورة الفلسطيني (الإرهابي) الذي يجب القضاء عليه وتهجيره خارج أرضه. 

الآن تم إلقاء جميع أوراق اللعب على طاولة الشرق الأوسط، ومن جديد تم خلط ما هو سياسي بما هو ديني وأسطوري. لقد عاد الحديث بقوة على لسان قادة إسرائيل عن أسطورة (إسرائيل الكبرى) لأن الرب وعد (أبرام) بأن يعطي لنسله الأرض من النهر إلى النهر. وعلى الرغم أن (أبرام) الذي ظهر في التوراة لا يشبه سيدنا إبراهيم المذكور في القرآن – رغم ذلك فالمسلمين مثل اليهود هم قوم من نسل إبراهيم ولذلك لهم الحق في الأرض نفسها التي وهبها الرب لإبرام حسب النص التوراتي في حالة كان (إبرام) هو سيدنا (إبراهيم) عليه السلام. وكذلك تم تداول الحديث عن إعادة بناء هيكل سليمان بعد هدم المسجد الأقصى على الرغم من أن جميع علماء الحفريات وعلماء الآثار بما في ذلك العلماء اليهود قد أكدوا عدم وجود ما يدل على ما يسمى بهيكل سليمان في القدس أو في أي مكان آخر في فلسطين. 

وهذه الحقيقة تدفعنا للتشكيك في وجود مملكتي داوود وسليمان على أرض فلسطين القديمة - التي يدعي الصهاينة بأنهم عادوا إليها ولذلك على الفلسطينيين الرحيل - فعلى الرغم من أن النص القرآني قد تحدث عن مملكتي داوود وسليمان لكن لا توجد آيات في القرآن تحدد مكانهما لكن التوراة تذكر معلومات جغرافية عن أماكنهما في فلسطين. 

في ذات السياق لا توجد تفاصيل جغرافية في النص القرآني عن مكان (الأرض المقدسة) فثمة أقاويل على أنها (جبل الطور) في سيناء وسرديات أنها (القدس) وسرديات أخرى أنها (أريحا).... الخ. وعلى ذات الصعيد لا توجد أدلة تاريخية تؤكد أن الضفة الغربية (يهودا والسامرة) وكذلك الأردن كانت جزءاً من مملكتي داوود وسليمان حسب السرديات التوراتية المتداولة. 

المعضلة الحالية أننا أمام حكومة متطرفة تحكم إسرائيل للمرة الأولى – إسرائيل التي أنشأها وبناها في الأصل الصهاينة الليبراليون – هذه الحكومة مدعومة بالمال والسلاح والعتاد والكونجرس والبنتاغون والفيتو من أقوى دولة في العالم يسيطر حالياً عليها عتاة المتطرفين البروتستانت في عهد القطب الواحد. كل هذه الفوضى تحدث في القرن الحادي والعشرين زمن الشوفينية والتطرف والعنف والفاشية والعنصرية والنازية الجديدة، زمن العودة للحروب الدينية والغزوات الصليبية في مرحلة ما بعد الحداثة، زمن يتدخل فيه الرب - حسب قول كبار رجال السياسة في بلاد العم سام - لحماية السفاحين وتحقيق أحلام المجرمين والطغاة والمتطرفين وقتلة الصحفيين والنساء والكهول والأطفال، زمن (يشجب ويدين البعض ما يحدث في غزة )، زمن (يشعر فيه قادة أوروبا وما يسمى المجتمع الدولي "بالقلق" فقط وهم يشاهدون حرب الإبادة والتجويع والهولوكوست الفلسطيني المنقول على الهواء مباشرة)، زمن لم يشعر فيه (أبو حنان بالسعادة) خاصة عندما علم بأن الجيش الإسرائيلي – أكثر جيوش العالم إنسانية – قد قذف خيمة أمام مستشفى الشفاء مرتين بصواريخ هيلفاير الأمريكية - في المرة الأولى أحرقت الصواريخ أجساد 5 صحفيين  وفي المرة الثانية قتلت الصواريخ طاقم المسعفين الذين توجهوا للمكان في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن (أبو حنان) لم يصدر أي بيانات إدانة لهذه المذبحة أو أي مذابح أخرى في غزة ولكنه لم يكن سعيداً، ونحن نشكره على مشاعره الطيبة وندعم ترشيحه بشدة للحصول على جائزة نوبل (للكلام) وهذا كل ما يفعله حتى تاريخه ونرشح شلة السفاحين وعلى رأسهم (بن حمير) للحصول على جائزة نيرون للمحارق و(الإبادة الجماعية). وربنا يستر. (طابت أوقاتكم).    
----------------------------
بقلم: 
د. صديق جوهر
أكاديمي وناقد
نياجرا - أونتاريو - كندا 

     

     

     

مقالات اخرى للكاتب

الرب سوف ينتقم من أمريكا