جبر الخواطر خلقٌ إسلامي رفيع، يحرص عليه أصحابُ اليد العليا؛ لإدخال السرور علي المسلم بالكلمة الطيبة، والمؤازرة المعنوية والمادية وقت الشدة والفرح أيضا.
وجابرُ خاطر إخوانه، هو سفيرٌ من سفراء الإسلام الحريصين على تطبيق تعاليمه؛ طمعا في الأجر والثواب من الله عز وجل، وقد حضّ الشرع قرآنا وسنة، ومنهج سلف على هذا السلوك الطيب، فقال ربنا سبحانه: (فأمّا اليتيم فلا تقهر)، أي تذكر يُتمك يا محمد، ولا تقهر يتيما طرق عليك بابك، وقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ، وقال أيضا: ( تبسُّمك في وجه أخيك صدقة ).
وأثر عن سفيان الثوري: " ما رأيتُ عبادة يتقربُ بها العبدُ إلى ربه مثل جبر خاطر المسلم ".
في طريق عودتي من تشييع جنازة أمِّ صديق لي، سرتُ مع أستاذي الأجلِّ صلاح صالح، الذي ألتقيه بين الحين والآخر، فأحرص على مرافقته؛ لأنهل من خبرته وحكمته، التي صقلتها الأيام والتجارب .
وبينما أتبادل وأستاذي أطراف الحديث، وأجني ثمار بساتينه الغناء، مرّ علينا الحاج محمد الشامي - حفظه الله - وهو رجلٌ من زمن الطيبين، تجاوز الثمانين من عمره، ورغما عن ذلك فهو آية في جبر الخواطر، وشعلة نشاط لا تنطفئ في المشاركة في الواجبات الاجتماعية من فرح وحزن .
قال أستاذي بمجرد أن رآه: ما دمنا بصدد الحديث عن القيم، التي أوشكت أن تندثر، فهذا نموذج فذّ في جبر الخواطر، هنالك لمعت في ذهني فكرةُ الحديث عنه لأمرين: أولهما علمي بأنه كان صديقا لأبي - رحمه الله - ومن ثم فإنَّ برّه هو برٌ بأبي، الذي لم أهنأ بقربه طويلا، بعدما رحل عن دنيانا، وتركني أعارك الحياة وتعاركني، وكثيرا ما تنتصر علي، بعدما فقدت ملاذه الآمن، الذي طالما احتميت به، والثاني لأسوق لقارئي قيمة نبيلة كادت تندثر بين الناس في زمن طغيان المادية، والأنانية، والنفعية، والأمثال المضللة، مثل: (اللي يعوزه بيتك يحرم على الجامع)، و(إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك)، وغيرها من أمثال مهترئة، ليتني أعرف صاحبها لأقتله قتل عاد وإرم .
والحاج محمد الشامي، ليس له حظٌ وافر من التعليم، وربما لم يكن له حظٌ أصلا، لكنه جمع من الخلق الرفيع، والقيم النبيلة، ما يسطر في الكتب، وتدرسه الأجيال .
لم يُفرق الرجل البتة في مجاملاته بين فقير وغني، صغير وكبير، غريب وقريب، الناسُ كلهم سواء، ينشط لمجاملة الكبير، ويُوسع الخطى ليؤازر الصغير، سواء في ليل أو نهار، برد أو حر، لسان حاله: (جبر الخواطر على الله).
هو واحدٌ ممن وفروا لقمة العيش بعرق الجبين، امتهن مهنة صناعة أقفاص الخضر والفاكهة، وهي مهنةٌ (تنحل وبر) العاملين فيها، وتدر عائدا قليلا، ورغما عن ذلك لم يتقاعس عن واجب، أو يُحجم عن عيادة مريض، أو تشييع جنازة، أو حضور حفل عرس، أو أيّ واجب اجتماعي .
امتاز الرجل بتواضع جمٍّ، قدَّره له الكلُّ، وبادلوه نبلا بنبل، فما إن دخل مجلسا، حتى انتفض الناس لاستقباله والاحتفاء به؛ احتراما لسنه، لكنه يأبي إلا الجلوس، حيث ينتهي به المجلس، وبمجرد جلوسه، يُنصت لمن يتكلم، ويبادله أطراف الحديث، فيما يفيد كنوعٍ من القرى، وصدق القائل :
أحدثه إنَّ الحديث من القرى / وتكلأ عيني عنه حين يهجع
لم يُعهد على الحاج محمد الشامي - حفظه الله - فضول الكلام، فالكلمة عنده بحساب، وخلاف ذلك، فمسبحته في يده يرتل أوراده ويلهج بالذكر .
يحرص الرجل على الصلوات في أوقاتها في المسجد، وخاصة صلاة الفجر، ويمتاز بحسن الجوار والرأي السديد، والذي صدّره للجلوس في المجالس العرفية؛ للفصل بين المتخاصمين .. الحاج محمد الشامي .. قيمٌ نبيلة، وزهرة فوّاحة من بستان الطيبين !
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
- مدير تحرير الأهرام