بحكم عملي كصحفي متخصص في ملف الصحة اعتدت أن أتلقى يوميًا اتصالات من الأهل والجيران والمعارف يحملون لي طلبات واستغاثات صحية تتنوع بين الكبير والصغير وفي اليوم الواحد قد تصلني خمسة أو ستة طلبات أو أكثر، وأبذل جهدي في تلبية ما أستطيع وأبحث عن حلول للبقية حتى ييسر الله الفرج.
لكن هناك موقف واحد وقع منذ أيام قليلة اخترق قلبي بعمق وأيقظ داخلي يقينًا بأن الحب والوفاء الحقيقيين ما زالا موجودين في هذه الدنيا.
اتصل بي رجل صوته مملوء بالوقار وأدبه يجعلك تحترمه قبل أن تراه كان يتحدث عن زوجته بصدق نادر فشعرت من نبرة صوته بمدى حبه لها واعترافه بجميلها عليه.
حكى أنها كانت طوال حياتها السند الحقيقي له مهما غضب أو انفعل لم ترفع عينها فيه يومًا ولم تعلُ نبرتها عليه، على العكس كانت تحتويه بحكمة وهدوء تُسكّن غضبه وتدلّله، حتى إنها كانت تضع قدميه في الماء وتدلّكهما له وتضعه فوق رأسها مهما زعلها أو قصّر في حقها.
لكن المرض الخبيث أصاب هذه السيدة الطيبة فصار زوجها يخوض حربًا في سبيلها.
أنفق عليها كل ما يملك ما يقارب مليوني جنيه كان يُجري لها جلسات علاجية أسبوعية تكلفه 80 ألف جنيه، ولما تدهورت حالتها ودخلت العناية المركزة صار اليوم الواحد يكلفه 20 ألفًا.
ورغم أن الأطباء أكدوا له أن الحالة ميؤوس منها رفض أن يستسلم أو أن يعيدها إلى البيت لتقضي أيامها الأخيرة هناك.
كان كل همه أن يوفّر لها أفضل رعاية ممكنة حتى آخر نفس، لا لشيء إلا لأنه يحبها بصدق ومن شدة حبه لها كان يدعو الله أن يُكرمها ويرفع عنها الألم الذي تعانيه حتى لو كان ذلك يعني رحيلها في سلام.
استنفد الرجل كل ما يملك وبدأ يبحث عن مستشفى حكومي يقبلها على نفقة الدولة، ومع أن أغلب المستشفيات كانت ترفض بسبب حالتها الحرجة فإنه لم يفقد هدوءه أو أدبه أو صبره لم يتجاوز في حديثه ولم يطلب إلا بحقها في رعاية تحفظ كرامتها.
هنا أدركت أن هذه الحالة مسؤوليتي وأن هذا الرجل يستحق كل جهد ممكن.
تحركت سريعًا اتصلت هنا وهناك ألححت وتابعت حتى استجاب الله وتم توفير سرير عناية مركزة لها في مستشفى حكومي على نفقة الدولة، وهنا لا بد أن أتوجّه بالشكر والتقدير للدكتور مصطفى القاضي مدير مستشفى أحمد ماهر الذي قدّر ظروف الحالة واستقبلها فورًا قبل أي إجراءات، وبإنسانية وصدق قال: "الإجراءات نعملها بعدين، المهم دلوقتي المريضة تتلحق " وهذا الموقف الإنساني يُحسب له ويُسجَّل كقدوة في التعامل الراقي مع الحالات الحرجة.
واليوم جاءني الخبر الذي أحزنني بقدر ما أثّر فيّ؛ فقد انتقلت هذه السيدة الوفية إلى رحمة الله بعد رحلة صبر وألم وحب نادر، ربما لم يتحقق الشفاء الذي تمناه زوجها لكن بالتأكيد تحقق ما كان يدعو به دومًا: أن يُكرمها الله ويرفع عنها الألم.
وهنا تعلّمت درسًا كبيرًا: الحب ليس مجرد كلمات بل فعل وتضحية وصبر.
والمرأة التي تحتوي زوجها بمحبة حقيقية وتقدير صادق وطاعة نابعة من قلبها لا تملك قلبه وحده بل تأسر قلبه وعقله وروحه معًا.
وهذا ما فعلته هذه السيدة مع زوجها فكانت له السكن والدعم حتى آخر لحظة وكان هو لها العطاء بلا حدود حتى فاضت روحها إلى بارئها.
إنها قصة حب نادرة في زمن قلّت فيه القلوب الوفية.
رحمها الله رحمة واسعة وجعل صبرها وشقاءها في ميزان حسناتها وبارك في زوجها الذي قدّم درسًا عمليًا في أن أعظم ما يربط بين اثنين هو الرحمة والوفاء.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
----------------------------
بقلم: أحمد صلاح سلمان