لم يكن التاريخ يومًا رحيمًا بمن يجرؤ على التفكير خارج الصندوق، فما بين من يملك الجرأة على طرح رؤى جديدة، وبين من يتمسّك بالأيدولوجيات الجامدة، تولد صراعات تُجهض أي محاولة للإصلاح الحقيقي. في مصر، منذ عام 2013 وحتى 2025، شهدنا نموذجًا حيًا لهذه المعركة الفكرية التي لا تُخاض في ساحات النقاش الحر، بل في أروقة محاكم التفتيش المعنوية، حيث يصبح الرأي المختلف جريمة، والنية تُحاسب قبل الفعل.
من الاختلاف إلى الإعدام المعنوي
كانت الفترة التي أعقبت 2013 حافلة بالتحولات السياسية والاجتماعية. كل فريق رفع شعاره الخاص، وكل تيار تبنّى يقينياته المطلقة. لكن المأساة لم تكن في اختلاف الرؤى بقدر ما كانت في شيطنة الرأي الآخر وتحويله إلى خصم وجودي. أصبح التفتيش في النوايا ممارسة يومية.. من يكتب منشورًا على وسائل التواصل يُسأل عن خلفيته السياسية، من يُبدي رأيًا اقتصاديًا يُتهم بالعمالة، ومن يحاول التوفيق بين الأطراف يُوصم بالانتهازية.
في العصور الوسطى، كانت محاكم التفتيش تلاحق العقيدة. اليوم، في مصر الحديثة، هناك محاكم لا تقل قسوة، لكن أدواتها تختلف في هذه النقاط:
. الإعلام المُسيّس الذي يختزل القضايا في ثنائية: مع أو ضد.
. الذباب الإلكتروني الذي ينهش كل صوت حر بتهمة الخيانة أو الممالأة.
. القوانين الفضفاضة التي تُستخدم أحيانًا لإسكات المعارضين، تحت مسميات مثل "نشر الشائعات" أو "إثارة الفتنة".
المأساة الكبرى أن هذه المحاكم لم تقتصر على أصحاب المصلحة أو المنتفعين، بل شارك فيها أيضًا انهزاميون يخشون التغيير، وأصحاب أيدولوجيات جامدة يظنون أن الحقيقة ملكية خاصة بهم.
الأثر على المجتمع والفكر أدى إلى هذه النتيجة:
. خنق الإبداع الفكري والسياسي، لأن كل فكرة جديدة تمر أولًا عبر مقصلة النوايا.
. تعميق الاستقطاب المجتمعي، حيث تحوّل الناس إلى معسكرات مغلقة.
. إفقار المجال العام، فلم يعد الحوار سوى صدى للاتهامات المتبادلة، لا نقاشًا حقيقيًا.
وبينما كانت الشعوب الأخرى تناقش كيف تدخل عصر الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر، كنا ما زلنا نناقش: "هل يحق لهذا أن يتكلم؟ وما نواياه الخفية؟".
لا يمكن لمجتمع يريد أن ينهض أن يعيش في ظل محاكم التفتيش. الإصلاح يبدأ من التصالح مع فكرة الاختلاف، والاعتراف بأن النية لا تُحاسب إلا بخروجها فعلًا إلى دائرة الضرر الملموس. كما أن مرونة الأيدولوجيا ضرورة، لأن الجمود يعني الموت الفكري.
إذا أردنا أن تكون مصر 2030 مختلفة، فعلينا أن نكسر تلك الدائرة الجهنمية التي تبدأ بتفتيش النوايا وتنتهي باغتيال العقول.
عاشت مصر حرة، مستقلة
---------------------------
بقلم: إبراهيم خالد