22 - 08 - 2025

"جمهورية المستشارين" بوزارة النقل: دولة ظل تلتهم المال العام

بينما تحاول وزارة النقل في بيان رسمي نفي ما نشرته جريدة "فيتو" عن وجود جمهورية المستشارين، تفتح الوثائق والتقارير الرقابية ملفاً مظلماً، مئات الملايين تُصرف سنوياً على وظائف استشارية، وقيادات فشلت أو أعفيت من مناصبها تحولت إلى مستشارين بامتيازات كاملة.

وفي الوقت نفسه، ينزف مرفق السكة الحديد دماء وأموال، وتخسر الموانئ حصتها الاستراتيجية لصالح دول مجاورة، وفي الكواليس، لا يُسمح بالكلام عنها علنًا، ومن يقترب يُتهم بـ"نشر أخبار كاذبة" أو يجد نفسه أمام قضية في محكمة الجنح. والحديث عن جمهورية المستشارين في وزارة النقل هو واحد من أخطر الملفات الممنوع من النشر عنها في مصر، لأنه يفتح على أبواب إهدار أموال مُمنهج، يُدار من خلف الستار باسم "الخبرة" و"الاستشارة"، ومنذ تولي الفريق كامل الوزير الوزارة، تضخمت ظاهرة المستشارين. أسماء من قيادات عسكرية سابقة، ورؤساء قطاعات خرجوا على المعاش، وأكاديميين يتم تدويرهم في مواقع استشارية داخل الديوان العام. وعلى الورق هم "مستشارون"، لكن عمليًا وزراء ظل يضعون سياسات النقل ويشرفون على مليارات الجنيهات في مشروعات السكة الحديد والمترو والموانئ، مكافآت شهرية وبدلات سرية لا يعرف عنها الرأي العام شيئًا.ومكاتب مجهزة وموارد تُسحب من موازنة النقل، رغم أن الهيئة نفسها غارقة في الديون وتستدين من البنوك لتغطية المرتبات.

تكشف تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن نزيف مالي في عقود الصيانة والتوريدات، ومع ذلك يظل الملف في الأدراج، ووفقًا لتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات لعام 2022، بلغت خسائر هيئة السكة الحديد ما يزيد عن 10 مليارات جنيه، رغم أن المرفق يحصل على دعم سنوي مباشر من وزارة المالية، فضلًا عن قروض ميسّرة من مؤسسات دولية. هذه الأرقام تطرح سؤالًا منطقيًا: لماذا لا ينعكس هذا الإنفاق الضخم على جودة الخدمة أو على سلامة الركاب؟

والمفارقة المؤلمة أن كبار المسؤولين عن الحوادث الكارثية لا يُعاقبون، بل يُعاد تدويرهم في مناصب استشارية: ففي 27 فبراير 2019، وقع حادث محطة مصر، الذي أسفر عن 31 قتيلًا وعشرات المصابين، وفي 26 مارس 2021، أودى تصادم قطارين في سوهاج بحياة 20 مواطنًا وأصاب 185، و في 18 إبريل 2021: انقلاب قطار طوخ، أدى إلى 23 وفاة وأكثر من 130 مصابًا. ورغم ضخامة هذه الكوارث، لم يُحاسَب المسؤولون إداريًا، بل تمت مكافأتهم بصفقات استشارية تضمن بقاءهم في المنظومة بعد أن كشفت إهمالاً هيكلياً في الإدارة. وأحيلت القيادات السابقة إلى وظائف استشارية داخل الهيئة، برواتب تتراوح بين 25 إلى 40 ألف جنيه شهرياً وفقًا لتقارير غير رسمية. وبعد حادث قطار العياط 2016، تمت إقالة رئيس هيئة السكة الحديد، لكنه ظل يتقاضى راتباً كمستشار حتى سن المعاش. وهناك قيادات سابقة بقطاع التشغيل والتحكم تحولت لمستشارين رغم ورود أسمائهم في تقارير تقصير إداري، مثل اللواء أشرف رسلان رئيس هيئة السكة الحديد الأسبق الذي أُقيل بعد سلسلة كوارث أبرزها تصادم طوخ في عام 2021. والمهندس مصطفى سلطان، كان مسئولا سابقا في مشروعات تطوير الإشارات، وذُكر اسمه في تحقيقات تخص تعطل توريدات، واللواء سعد الجيوشي، وزير النقل الأسبق، واتُهمت وزارته بتعيينات محسوبية في الهيئة البحرية والسكك، و في سبتمبر 2022 يوجد اللواء عصام عبد القادر الذي كان مسؤولًا عن قطاعات سابقة داخل الوزارة (منها النقل أو السكك الحديد/المشروعات)، ومُعين مستشارًا للوزير بديوان عام الوزارة. واللواء إبراهيم يوسف، والذي كُلّف بمهام استشارية مرتبطة بالقطاع البحري، وتم تقديمه إعلاميًا كمستشار للوزير، والدكتور محمد رياض، المستشار القانوني لقطاع النقل البحري، ظهر اسمه في الوثائق الرسمية المنشورة على بوابة الأهرام، والسيد رأفت عبد الرشيد الذي يعمل كمستشار قانوني معتمد للوزارة، وأُعلن عن مهامه بوضوح، و نتساءل هل هذه المناصب تهدف إلى الاستفادة من الخبرات المتراكمة بالفعل؟ أم أنها وسيلة للحفاظ على نفوذ القيادات السابقة داخل منظومة النقل؟

وتعرض ميناء الإسكندرية إلي خسارة عقود شحن كبرى لصالح ميناء بيريه اليوناني وموانئ تركيا بسبب تأخر التطوير وضعف الإدارة، رغم ذلك، تم تحويل عدد من القيادات المقالة إلى "مستشارين للموانئ" داخل الوزارة والهيئات التابعة، وكانت الحالة الأبرز، في يونيو 2024، ظهر رسميًا في فعالية لوزارة النقل اللواء بحري رضا أحمد إسماعيل (رئيس قطاع النقل البحري الأسبق) بصفته "مستشار الوزير"، وفق ما أعلن في الكلمة الرسمية للوزير، رغم أن الوزارة تقول إنه "موظف مدني"، لكن تعيينه من البداية كان بقرار مجاملة بعد خروجه من الخدمة، والذي يفتح وجوده باب سؤال: لماذا يتم تفضيل العسكريين السابقين على الكفاءات البحرية المدنية؟

فإن هذه التعيينات ليست حالات فردية، بل نمط متكرر لخلق "طبقة ظل" من المسؤولين السابقين.

و رصدت تقارير محلية وإعلامية تصدع محاور وكباري بعد أشهر قليلة من افتتاحها مثل (أنفاق الإسكندرية التي غرقت مع أول أمطار).هذه المشاريع نفذتها شركات مقاولات بعقود أُشرفت عليها لجان استشارية بالوزارة، ورواتب وحوافز هذه "اللجان" تجاوزت 200 مليون جنيه سنوياً، في وقت لا يجد المواطن طريقاً آمناً أو كبري ثابتاً.

وتحولت "الوظائف الاستشارية" الي حصانة ذهبية، وكل قيادي يفشل أو يعفى لا يُحاسب، بل يُكرم بوظيفة استشارية برواتب وامتيازات حتى المعاش في شبكة مغلقة، أغلب المستشارين من لواءات سابقين أو محسوبين على جهات سيادية، ما يحرم الكفاءات المدنية من التدرج الطبيعي.

وبتكلفة تقديرية غير رسمية فإن "جمهورية المستشارين" تكلف وزارة النقل والهيئات التابعة ما لا يقل عن مئات الملايين سنوياً (مرتبات و بدلات وسفر و حوافز..الخ)، لذلك نجد أن بيان وزارة النقل اللي قال "لا يوجد غير أثنين مستشارين" هي محاولة بائسة لغلق الملف، فهذه الوقائع الرسمية تُضغط على البيان وتضع تساؤلات حقيقية: هل تم إغفال ذكر هؤلاء عمدًا؟ أم تم اعتبارهم في إطار آخر؟

لكن الحقيقة أن "جمهورية المستشارين" تساوي منظومة إهدار أموال محصنة بالقانون في بلد تستدين من أجل تسيير المرافق، وحياة المصريين تُزهق على القضبان، بينما المسؤولين عن الكوارث يتقلدوا أعلي المناصب على مكاتب مكيفة كـ "مستشارين"، و تكشف الفعاليات الرسمية والمصادر الإعلامية الموثوقة أن هناك قائمة طويلة من المستشارين ذوي خلفيات عسكرية وقانونية وفنية. وهو ما يجعل توصيف “جمهورية المستشارين” توصيفًا واقعيًا أكثر من كونه مجرد تعبير صحفي.

و إذا كانت وزارة النقل بريئة كما تقول، فلِمَ لا تعلن بشفافية، كشفا رسميا بأسماء كل المستشارين وهيئاتهم ورواتبهم و حجم ما تتكلفه الموازنة العامة سنوياً على "وظائف استشارية"، وآلية محاسبة القيادات التي تسببت في كوارث مثل سوهاج والعياط؟ و تعد "جمهورية المستشارين": شبكة متشابكة، تحمي مصالحها بالحصانة الأمنية والرقابية، وتلتهم من الموازنة العامة مئات الملايين تُدفع من جيوب المواطنين البسطاء عبر رفع أسعار تذاكر السكة الحديد والمترو والعبّارات.

أما السؤال عن عدد المستشارين في الوزارة ممنوع، والبيانات الرسمية لا تُعلن سوى عن "المستشار القانوني" أو "مستشار الطرق"، وفي قلب كل ذلك تبقى الصحافة مكبلة، حيث أُحيل صحفي في جريدة قومية عام 2022 للتحقيق الداخلي بتهمة "الإضرار بالمصالح العليا للدولة" بعد نشره تقريرًا عن تضخم أعداد المستشارين، فيما أشارت نقابة الصحفيين في بيان رسمي في مايو 2023 إلى ملاحقة الصحفيين بسبب تغطيتهم لملفات حساسة داخل وزارة النقل، ما يجعل الحقيقة نفسها محظورة من النشر ويحوّل الملف برمته إلى منطقة محرمة، وأي تقرير يُلمّح لتضخم ميزانية المستشارين يتم إيقافه قبل الطباعة أو يُرفع ضده قضية، والغريب هو تنديد النقابات العمالية بدورها من هذه السياسة أكثر من مرة. ففي تصريحات منشورة في بوابة الدستور في اغسطس ٢٠٢٢، أكد قياديون في نقابة عمال السكة الحديد أن وجود هذا العدد من "المستشارين" يُضعف من استقلالية الهيئات ويكرس لثقافة "الشللية"، و المفارقة أن هذه الظاهرة تأتي بينما تُدار الحملة الإعلامية للوزارة بشعار "تجديد الدماء" و"إعادة هيكلة القطاع"، في حين أن الوقائع تكشف عن إعادة تدوير نفس الأسماء والقيادات التي ارتبطت بفترات الخسائر والأزمات. بل إن البعض يذهب إلى القول إن "جمهورية المستشارين" باتت شبكة متشابكة من المصالح تحمي نفسها بقوة النفوذ وتلتهم مئات الملايين في صورة بدلات ورواتب وامتيازات، في وقت يشكو فيه المواطنون من رفع أسعار تذاكر القطارات وتردي الخدمة.
--------------------------
بقلم: جورجيت شرقاوي


مقالات اخرى للكاتب