قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 133].
أولًا _ التفسير
ذكر المفسرون في معنى هذه الآية:
الطبري: الطوفان هو الغرق بالماء الكثير، والجراد آفة الزرع، والقُمَّل قيل هو الدَّباء (نوع من الحشرات الصغيرة)، وقيل البراغيث أو القمل المعروف، والضفادع آية كثرت حتى غشيت البيوت والآنية، والدم تحوّل النيل إلى دم عبيط لا يُستسقى منه. وكلها آيات متعاقبة منفصلة لعلّهم يرجعون.
ابن كثير: أرسل الله هذه الآيات على فرعون وقومه عقوبةً وتخويفًا، فكانوا كلما جاءتهم آية قالوا لموسى ادع لنا ربك، فإذا كشفها عادوا إلى كفرهم.
القرطبي: في ذكر الجراد والقمل والضفادع والدم بيان لعجزهم أمام مخلوقات ضعيفة، ليرى الناس أن الله قادر أن يعذب بما احتقروا من خلقه.
السعدي: كانت هذه ابتلاءات عظيمة، فيها عبرة للناس: أن الله يملك الكون، ويسير المخلوقات كيف يشاء، صغيرها وكبيرها، فلا يرد بأسه أحد.
ثانيًا _ الإعجاز اللغوي
ترتيب الآيات: جاء على تدرج تصاعدي من حيث شمول الأذى: الطوفان عام، الجراد يهلك الزرع، القمل يمس الجسد والزرع، الضفادع تملأ البيوت والآنية، الدم يفسد أعظم عنصر للحياة.
اللفظ القرآني: كلمة "آيات مفصلات" تحمل معنى أنها آيات بينات واضحة متتابعة، كل واحدة منفصلة عن الأخرى، ليكون الأثر أوضح في نفوسهم.
بلاغة الجمع: وردت بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة والإحاطة: الجراد جموع هائلة، الضفادع غطّت الأرض، القُمَّل انتشر في كل مكان.
التقابل الفني: المخلوقات الصغيرة (القُمَّل، الضفادع) والمظاهر الكبيرة (الطوفان) اجتمعت لتؤكد أن قدرة الله لا يحدها حجم ولا هيئة.
الإيقاع القرآني: تقارب المقاطع (الجراد، القمل، الضفادع، الدم) يخلق موسيقى توحي بالتتابع الكارثي للعقوبات.
ثالثًا _ الإعجاز العلمي
1. الطوفان: تشير الدراسات البيئية إلى أن الفيضانات المفاجئة تغير توازن الحياة، وتجعل الأرض بؤرة أوبئة بسبب ركود المياه. وقد أثبتت السجلات الجيولوجية لمصر القديمة وجود فيضانات كارثية في وادي النيل.
2. الجراد: الجراد الصحراوي قادر على التهام مئات الأطنان من المحاصيل يوميًا، وتكوّن السرب منه يُعتبر من أعظم الكوارث الزراعية. وقد سُجلت هجراته في مصر القديمة بالنقوش الهيروغليفية كعقوبات سماوية.
3. القُمَّل: بعض المفسرين قالوا هو "القُراد" أو "البراغيث". علميًا: هذه الطفيليات ناقلة للأمراض الوبائية (كالتيفوس والطاعون). انتشارها بكثرة يؤدي إلى انهيار الحياة اليومية، وقد أكدت دراسات أن تفشي القمل الجماعي يحدث عادة بعد فيضانات وأزمات بيئية.
4. الضفادع: كائن بيئي حساس جدًّا؛ تزايدها المفاجئ يُشير إلى خلل بيئي. وجودها المفرط يدمّر النظام الزراعي لأنها تأكل المخزون الغذائي وتفسد المياه وتسبب الذعر، بينما توازنها الطبيعي يحفظ البيئة من البعوض والطفيليات. كما أن إفرازاتها تحتوي على مركبات دوائية ذات تأثير مضاد للبكتيريا والسرطان.
5. الدم: تحوّل النهر إلى دم أو شبه الدم يمثل كارثة بيئية. اليوم يُعرف ما يسمى "المد الأحمر" (Red Tide) بسبب الطحالب السامة التي تحوّل المياه إلى اللون الأحمر وتقتل الأسماك. كذلك، تلوث المياه بالدم أو البكتيريا يوقف الشرب والزراعة ويؤدي إلى أوبئة ومجاعات.
وهكذا نرى أن كل آية تحمل في طياتها إعجازًا علميًّا متدرجًا: من إغراق الأرض، إلى تدمير المحاصيل، إلى تفشي الطفيليات، إلى انهيار التوازن البيئي، إلى فساد مورد الحياة (الماء).
رابعًا _ فائدة قرآنية
الآية تعلمنا أن الله يبتلي الناس بما شاء من جنده، صغيرًا كان أو عظيمًا. وأن الكون قائم على ميزان دقيق، فإذا اختلّ التوازن تحولت النعمة إلى نقمة. وتبين أن الإنسان ضعيف أمام أبسط مخلوقات الله، ليعرف حجمه الحقيقي. كما أن في ذكر "آيات مفصلات" إشارة أن البلاء ليس عشوائيًا، بل بقدر محسوب ليوقظ القلوب.
المصادر
تفسير الطبري، جامع البيان.
تفسير ابن كثير.
تفسير القرطبي.
تفسير السعدي.
دراسات في الإعجاز العلمي – الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (تقارير الجراد الصحراوي).
منظمة الصحة العالمية (تقارير عن الطفيليات والقمل).
دراسات عن التوازن البيئي للبرمائيات – المجلة العربية للعلوم البيئية.
الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) – دراسات ظاهرة المد الأحمر.
------------------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى