21 - 08 - 2025

العصافير فى نعيم!

العصافير فى نعيم!

جلست يومًا وصاحب لى ببعض الحدائق النضِرة، البهيجة الخضِرة، يكتنفنا عن اليمين والشمائل شجرها وزهرها وعصفورها، فلما أبصر صاحبى بعض تلك العصافير يثب هنا وهاهنا، قال: ما أهنأ عيش العصافير! تغدو وتروح مطمئنة البال، خفيفة الأحمال، سعيدة الحال! فنظرت فى قوله فوجدته لأول وهلة يبدو حقًّا، فكلنا يتمنى عيش عصفور  يغدو ويروح فى الجو الطلق الرحيب:

و(له) الحقول وزهرها وأريجها ** ونسيمها والبلبل المترنمُ. فعيوننا لا تبصر من عيش العصافير إلا هذا، أما الحق فعيشها فيه كثير من هذا، وكثير من ضد هذا.

فأقبلت على صاحبى متفلسفًا، وقاطعًا عليه حبل توهمه، وهادمًا له لذة تخيله، وكشفت له حقيقة عيش العصافير الذى فتنه، فقلت له: حقًّا يتقلب عصفورك فى الطبيعة شمسًا وظلًّا، وروحًا وندى، أرضًا وسما، لكنه لم يأخذ من الطبيعة نُقاوتها، بل أخذها بجملتها، فله نصيبه من خيرها وشرها، نفعها وضرها، صحتها وسقمها، فهذا الذى لا ترى عينك من عيشه إلا أنه طائر لاهٍ، ينقز فرحًا بين غصون الشجر، إن أنت تفرست عيشه لوجدته عيشًا كَدًّا مخوفًا فى ليله ونهاره، وغدوه ورواحه، وسعيه وراحته، فالعصافير إن هى أرادت عشًّا لحضنها وفقسها مكثت الأيام فى تعب ونصَب غادية ورائحة تجمع القشة إلى القشة، والخيط إلى الخيط، ثم تضفرها وتهيئها وتوطئها جميعًا حتى يستوى لها ولأفراخها العش، وإن هى أرادت الرزق لها ولأفراخها لم يخلُ أمرها من سعى وكَدٍّ ومخاوف، فإنها من لدن أن تخرج لاكتساب أرزاقها فى الغداة وعودتها فى الرواح وهى مُتربَّص بها من كواسر طير السماء تريد أن تخطفها، أو من فتية يترصدونها من الأرض بنبلهم أو بنادقهم يريدون صيدها، فإن سلمت من هؤلاء وهؤلاء، ووُفقت إلى رزقها سارعت بالرجعة إلى أعشاشها لإطعام أفراخها، فأخرجته لهم من أجوافها لبأً سائغًا للطاعمين، ثم أعادت الكرَّة تارة أخرى حتى تَطعم وتُطعم من تعول، ولا تزال فى ذلك النصب والكد غادية ورائحة سائر يومها، فإذا جَنَّ عليها الليل وأوت إلى عشها، وظننت أنها بنوم هنىء، فلعها لم تنم إلا لِمامًا، أو لعلها أصابت النومة الكُبرى فلم تُفِق، فإن هذه العصافير التى نظنها فى أعشاشها منعمة إنما تقضى ليلها متربصًا بها من كل طائر أو زاحف أو وثّاب، فالقط نمر صغير لا يعجزه مرتفِع فوق شجرة، ولا غائر تحت صخرة، فهو يتسلق للعصفور من أسفله، والبوم طير يترصده من السماء فينقض عليه فلا يفلته، والثعبان شر زاحف منتظَر لا يدع طائرًا، ولا فرخًا، ولا بيضًا إلا التقمه ومضى! فإن نجا من ثلاثتهم، فربما لا ينجو من ريح عاصف تفجؤه فتهوى به وبعشه الواهى فى مكان سحيق، فإن سَلِم ليلته تلك استقبل بكوره بكد وجد كمثل أمسه، فهل لا زلت ترى بعدُ أن العصافير فى نعيم؟!

كلا، إن العصافير تسكن دنيانا، وتجرى عليهم من المقادير خيرها وشرها ما يجرى على بنى البشر، نَصَب وراحة، وبلاء ورخاء، وجوع وشبع، وصحة ومرض، فعلى أى شىء تغبط العصافير؟!

وليس حال أحدنا بأفضل من حال عصفورنا هذا، فهذا الملياردير الذى تظنه أهنأ الناس عيشًا، أهو كذلك؟! نعم، ربما كان أهنأ الناس بدنًا، لكن اذكر أنه أحد أهل دنيانا، تجرى عليه سنن الله فيها، فهو وإن طعم ولبس وركب وجمع إلا أنك لا تعلم أنه أشقى الخلق بالًا، وأضيقهم نفسًا، وأتعسهم خاطرًا، فهو يفكر ويدبر ليزيد إلى المليار مليارًا آخر، وهو يستخفى بماله لئلا يطمع الطامعون، ويحتاط له مخافة أن تسلبه إياه تشريعات الدولة، ويحتال لئلا تناله الضرائب.. إلخ. وهذا نجم الكرة أو الفن فلان ذو الشهرة والمال، أتظنه قد أخذ الشهرة والمال نُقاوة من الدنيا وترك باقى قسمته منها؟! أَ تَظن أنه فى النعيم المقيم، يأمر فيطاع، ويشتهى فينال؟! كلا، إننا لا نرى إلا الوجه اللامع لهؤلاء، فهل بلغك ما تحت الوجه اللامع من أسقام؟! وهل عرفت كم منهم يبيت سهران فردًا وحيدًا لا حديث ولا أنيس؟! وهل سمعت بديونه وسُلُفاته بعد نفاد ماله؟! كم قد عرفنا نجومًا كانوا ملء السمع والبصر، فلما تقصّت الصحافة أخبارهم علمنا أنهم إما فى دور الرعاية، أو فى المحاكم، أو يشتكون فقرًا وعيْلة، فعلامَ تغبطهم؟! وهذا  الخواجة الذى تراه ضاحكًا لاهيًا فى لقطة ثابتة أو مرئية لبضع دقائق فتقول ما أرفه عيشه؟! رويدك، فهذا الخواجة لم يزل فى الدنيا بعد، وتجرى عليه مقادير الله فيها، فإن أنت رأيت حُسن نظام، ونظافة طريق، وانضباط عمل، وتخييم فى المتنزهات، ولهو فى الملاعب فتمنيت عيشه، فأقول: قد أخذت لقطة وغابت عنك لقطات، فلم تعرف بعدُ عدد ساعات عمله الطوال، وضيق الأوقات، وقلة الأجور بعد الضرائب والأقساط، ووحشة النفس، وقلة الأُنس، وغياب الشمس.. إلخ، فعلامَ تغبطهم؟!

يا صاحبى، هنا دنيا، حيث لا مستريح ولا مستراح، فلئن أبَيْت إلا أن تغبط العصافير على النعيم، فنعيمهم أنهم لم يحملوا الأمانة التى حملها الإنسان، فهم أيسر منا حسابًا يوم القيامة، وقد قال الأول: "إن التقى هو السعيد".
-------------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

العصافير فى نعيم!