21 - 08 - 2025

متلازمة الرجل الثاني

متلازمة الرجل الثاني

(مقال رائع من عدة نواح.. تعرض لفنان لم يأخذ حقه قدر موهبته.. وأتته الشهرة متأخرة، ولأنه يملك من الأدوات والموهبة الكثير، فقد اغتنم الفرصة وأصبح قاسمًا مشتركًا في كثير من الأفلام والمسلسلات منذ نهاية التسعينات، يشاركه في هذا المسار المرحوم حسن حسني، حيث جاءته الفرصة متأخرة وكان أكثر تألقًا. 

ولعلها ظاهرة فنية غريبة، فبعض الفنانين يتألق مبكرًا ثم يفقد البريق مع كبر السن، وهؤلاء عادة يعتمدون على الوسامة والملامح الجذابة وأعتقد أن الأستاذ كمال الشناوي والعظيم يوسف وهبي، قد شذا عن هذه القاعدة، فقد استطاع الأخير تغيير الصورة الذهنية عنه من ممثلٍ للمآسي والدراما إلى ممثل كوميدي من نوع غير قابل للتقليد والتكرار، فدوره في فيلم إشاعة حب كان متميزًا لدرجة عظيمة.

أما الأستاذ حسين فهمي فقد استطاع الاحتفاظ بالبريق نظرًا للباقته وقدرته على جذب الانتباه والتأثير على المشاهدين بخفه دم راقية وغير مصطنعة.

أما التقمص وتأثير الدور علي الممثل، وأحيانًا تأثير الممثل علي الشخصية، فنحن لم نر عمر المختار ولكن الجميع يعتقد أنه على صورة آنتوني كوين في الفيلم الذي يحمل اسمه. 

هذا ولا تقتصر عقده دون كيشوت على الفن فقط، ولكن من يمارس العمل لفتره طويلة يتوحد تقريبًا مع شخصية العمل حتى بعد انصرافه، وأعتقد أن هذه حالة يعاني منها كثير ممن عملوا في جهات تتسم بالانضباط، فبعد ترك الخدمة يواصل بعضهم منهجه الصارم ولو على أهل بيته). 

تعقيب الدكتور حافظ السلماوي، الرئيس الأسبق لمرفق الكهرباء والأستاذ بكلية هندسة الزقازيق، على مقال " لطفي لبيب.. عندما يتقمص المتفرج الدور" المنشور في نفس الزاوية.

من غير شك، هناك طاقات إبداعية فنية يملكها كثيرون، منهم من تحول إلى نجم شباك، وآخرون ظلوا في الخلفية، وآخرون لم يتمكنوا من اختراق الصفوف، فأكملوا الرحلة كومبارس.

في فيلم "غزل البنات"، غنت ليلى مراد "اتمخطري يا خيل"، من على ظهر فرس عربي أصيل، ومن خلفها مجموعة من الغيد الحسان، كانت بينهن فتاة تُدعى هند رستم، صارت بعد ذلك نجمة الشباك الأولى، وكذلك كانت بدايات مخرج نفس الفيلم؛ أنور وجدي، كومبارس في فرقة يوسف وهبي المسرحية، شق طريقه وأصبح ممثلاً ومنتجًا ومخرجا وقف أمامه يوسف بك وهبي ليمثل مشهدين في نفس الفيلم.

لكن أنور وجدي مكتشف الطفلة فيروز، هو الذي سخر من عادل أدهم عندما طلب منحه فرصة، ولعلك ترفع حاجبيك عجبًا، ربما كانت الكيمياء السبب!!

وإذا كانت هذه النماذج نجحت في تحقيق شهرة واسعة، فمن المؤكد أن هناك عشرات آخرين علاهم تراب التجاهل والنسيان، ربما كان فيهم صاحب مهارة.

ولعلك تتفق معي عزيزي القارئ أن حديثنا عن الفن ونجومه وأقماره، ينبسط على كافة المجالات، مؤكد أن هناك علماء بارزون طواهم النسيان لأنهم لم يجدوا المعمل المناسب، واقتصاديين بارعين تعرضوا للسخرية فآثروا الانزواء، وأطباء مهرة اكتفوا من الحياة العملية بحجرة كشف تحت السلم لأن صاحب المستشفى الدولي رفضهم، وكُتابًا تنبض حروفهم بسحر الكلمة ماتوا في حواري النسيان لعجزهم عن تمويل تكاليف طباعة ونشر وترويج إبداعاتهم، وغيرهم نماذج كثيرة في دهاليز الحياة، داستهم أقدام إنكار وتجاهل وتشكيك غير مبررة.

وهنا يأتي السؤال، كيف نكتشف هذه الكنوز؟ وما هي الآليات التي تضمن اكتشاف أكبر عدد من المبدعين؟.. عقل واحد يمكنه أن يغير مسار أمة.. يمكنه أن يمنحها قوة تضعها في المقدمة كما فعل لي كوان يو مع سنغافورة، ودنج شياو بنج مع الصين، وعقل واحد يمكن أن يُلقي ببلده في الهاوية، هكذا كان الشاويش هتلر والصحفي موسوليني.

ربما نستلهم إجابة السؤال بما شهدته الساحات الرياضية في الستينيات، كان "عبده البقال" كشاف المواهب في النادي الأهلي يجوب الشوارع والحواري للفرجة على مباريات كرة القدم، وبعين الخبير يكتشف اللاعب الموهوب من بين الزحام، فقدم لمصر وللنادي رفعت الفناجيلي، وميمي الشربيني، وعلي زيوار، وثابت البطل، وربيع ياسين، وغيرهم.

اكتشاف المواهب يحتاج منهجا علميا لا تتدخل فيه أهواء من قبيل (دمه تقيل أو مش نازل لي من زور)، تدفع الدولة ثمنها بخسارة أهم ثرواتها.. الثروة البشرية.

وجود نجوم صف ثاني أمر طبيعي.. النابلسي، والقصري، وحسن عابدين، وحسن حسني، ولطفي لبيب، وفؤاد بيومي وغيرهم، نجوم أسهموا في نجاح نجم الشباك، ونجحوا بتمسكهم بما يمكن أن نطلق عليه (متلازمة الرجل الثاني)، حتى أن النابلسي عندما تخلى عن تلك المتلازمة وأدى دور البطولة في فيلم حلاق السيدات، سقط سقوطًا مروعًا.

وهكذا قد يصبح النجاح الحقيقي أحيانًا في إتقان دور الرجل الثاني، لا التطلع الزائف إلى صدارة لا تناسب الموهبة!
-------------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

متلازمة الرجل الثاني