لا بقاء لإسرائيل دون أمرين: 1- كسر شوكة الفلسطينيين بصورة نهائية، بحيث ينتهي إلى الأبد مطلب الدولة الفلسطينية، وتستقر إلى الأبد إسرائيل كدولة يهودية الهوية والسيادة على مجمل أرض فلسطين التاريخية. 2- أن تكون لإسرائيل الكلمة العليا في تقرير مصاير الشرق الأوسط، وليس فقط من النيل إلى الفرات. هذان الأمران تتأكد أهميتُهما في العقل الصهيوني، كلما نشبت حرب بين إسرائيل وجوارها وآخرها حرب طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023، حيث خاضت إسرائيل الحرب ضد فلسطين واليمن وسورية ولبنان وإيران، خاضتها بروح الإبادة المقدسة مدفوعة بغريزة الهيمنة التاريخية، ليس فقط على أرض فلسطين، بل كذلك على ما حولها من بلدان وشعوب.
نقرأ في سفر التثنية، وهو خامس أسفار التوراة مصطلح الإبادة الحلال بصراحة لا تورية فيها، وبوضوح لا غموض معه، كما وردت في الآية التالية: ” وأما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها لكم الرب إلهكم مُلكاً، فلا تُبقوا أحداً منهم حياً، بل تحللون إبادتهم، وهم الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون، كما أمركم الرب إلهكم، لئلا يعلموكم، أن تفعلوا الرجاسات التي يفعلونها في عبادة آلهتهم، فتخطأوا إلى الرب إلهكم. والشعوب المذكورة في هذا النص، هم أصحاب حضارات الشرق الأدنى القديم، وهم- على وجه التقريب- أسلاف شعوب الشرق الأوسط المعاصر.
قبل آية الإبادة تمهيد بآيتين مهمتين، آية الخروج للحرب، ثم آية الحرب نفسها. في الأولى نقرأ: “إذا خرجتم للحرب على أعدائكم، فرأيتم خيلاً ومركبات مع جيش أكثر منكم، فلا تخافوا منهم؛ لأن معكم الرب إلهكم الذي أخرجكم من مصر”. ثم في الآية التي بعدها نقرأ: “وإذا اقتربتم من مدينة لتحاربوها، فاعرضوا عليهم السلم أولاً، فإذا استسلمت وفتحت لكم أبوابها، فجميع سكانها يكونون لكم تحت الجزية، ويخدمونكم، وإن لم تسالمكم، بل حاربتكم، فحاصرتموها، فأسلمها الرب إلهكم إلى أيديكم، فاضربوا كل ذكر منها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغنموها لأنفسكم وتمتعوا بغنيمة أعدائكم التي أعطاكم الرب إلهكم، هكذا تفعلون بجميع الأمم البعيدة منكم جداً”. وغني عن القول هذه الأمم البعيدة، هي كافة شعوب الشرق القديم الذي هو الشرق الأوسط المعاصر.
هذه الروح- روح الإبادة- في التعامل مع غير اليهود من شعوب الشرق، تراها منتشرة في السفر من مطلعه حتى ختامه، ففيه تقرأ: ” إذا أفنى الرب إلهكم الأمم الذين يعطيكم أرضهم، فورثتموهم وأقمتم بمدنهم وبيوتهم، فأفرزوا لكم ثلاث مدن في وسط أرضكم التي يعطيكم الرب إلهكم لتمتلكوها”. وعند الحديث عن ملك الأموريين- وهي إمبراطورية عظيمة في الشرق الأدنى القديم نقرأ: “فأسلمه الرب إلى أيدينا، فقتلناه هو وبنيه وجميع قومه، وفتحنا جميع مدنه في ذلك الوقت، وحللنا في كل مدينة قتل جميع الرجال والنساء والأطفال، فلم نُبق باقياً، وأما البهائم فغنمناها لأنفسنا مع المدن التي فتحناها”. كما نقرأ: “فحللنا في كل مدينة قتل جميع الرجال والنساء والأطفال”.
………………
حرب طوفان الأقصى، وما أعقبها من حرب إبادة، وضعت الشرق الأوسط على أعتاب صراع جديد، حيث تنتقل إسرائيل من رحلة البحث عن سلام مع جيرانها إلى تشكيل شرق أوسط جديد، تكون لها فيه الكلمة العليا، الدرس الأكبر الذي خرجت به إسرائيل، أن ما كانت تخشاه من التضامن العربي، لم يعد له وجود عملي على المستوى الرسمي، فكافة الدول العربية تصرفت وفق مصالحها الوطنية القريبة والآنية والمباشرة، كان لكل دولة عربية مصالحها مع إسرائيل، ومن ثم، كان لكل منها موقفه الذاتي، لم يوجد تضامن عربي ولا موقف عربي موحد ولا نجدة عربية، تفزع لشعب عربي، تتم إبادته في وضح النهار على مرأى من أعين العالم كله، بل تطوعت كافة الحكومات العربية في لجم وضبط وكبح مشاعر شعوبها ووضعها تحت السيطرة، لهذا كانت الشعوب العربية هي أقل شعوب العالم تمتعاً بحقوق التعبير عن عواطفها النبيلة تجاه محنة شعب عربي شقيق، بل تعاملت السلطة الفلسطينية الرسمية بحياد بارد في الظاهر، كأن الأمر لا يعنيها مع شيء من الانحياز الخفي ضد فرق المقاومة في غزة، هذا معناه، أن إسرائيل لم تجد موقفاً عربياً متضامناً مع المقاومة، بل كذلك، لم تجد موقفاً فلسطينياً واحداً، إنما أكثر من فلسطين، وأكثر من موقف فلسطيني.
الدرس ذاته يتكرر مع التضامن الإسلامي، تركيا كانت أكثر وفاءً لعلمانيتها ومصالحها الوطنية وطموحها الإقليمي. إيران انجرت لحرب خاطفة، هزت ثقتها في نفسها، كما هزت صورتها، وخسرت في عامين نفوذاً إقليمياً شيدته في ربع قرن من الزمن. مصر كانت أكثر وفاءً لاستقرارها وأمنها في لحظة مضطربة، حيث لا دولة في غربها الليبي، وحيث لا دولة في جنوبها السوداني، وحيث لا أفق للحل في شرقها الفلسطيني، وحيث أوضاعها الاقتصادية مأزومة، وحيث غليان اجتماعي مكتوم في الداخل، وحيث الطريق يغمره الضباب، وحيث المستقبل على كف المجهول.
إسرائيل بعد الطوفان والإبادة، هي إسرائيل جديدة تماماً، منهزمة في 24 ساعة، هي ساعات السابع من أكتوبر 2023، منتقمة الانتقام الحلال ومبيدة الإبادة المقدسة التي قرأناها في آيات التوراة من سفر التثنية. المقاومة الفلسطينية تكبدت، ومعها أهل غزة خسائر مهولة هي الأعلى في القرن الـ21، فكرة المقاومة المسلحة ذاتها دخلت في اختبار شديد، فهي رمزية فدائية واستشهادية رفيعة المستوى، ولكنها- في ظل انعدام التوازن مع ترسانة السلاح الإسرائيلي المدعوم من ترسانات السلاح الأمريكي والأوروبي- تظل كثيرة الخسائر قليلة العوائد تضر الشعب الفلسطيني، بدل أن تحميه وتعرضه لمزيد من الأخطار، بدل أن تصد عنه الأخطار، فكرة المقاومة المسلحة تضع وجود إسرائيل محل تساؤلات وجودية عميقة، لكنها مع الخذلان العربي تدفع في مقابل ذلك أثماناً باهظة من أرواح الشعب الفلسطيني وحضارته، إنها موازنة صعبة ومعادلة عسيرة، ففي عامين فقدت المقاومة الفلسطينية عددا كبيراً من قياداتها، ذهبوا شهداء ومعهم وقبلهم، وبعدهم استشهد كثيرون من فلذات أكبادهم وأهليهم وذويهم، لقد ضربت المقاومة الفلسطينية أروع الأمثلة النادرة في تاريخ الإنسانية، قدمت مدداً روحياً وثقافياً أعاد أحياء وإنتاج وتعريف وتقديم الحق الفلسطيني إلى ضمائر الأحرار بين كل شعوب العالم، لكن على الأرض كان الثمن أفدح، مما يستوعبه العقل البشري الذي لا يعلم، أن الإبادة حلال بمنطق العقل التوراتي، وأن العقل التوراتي لا يعمل في فراغ، لكن يعمل في الشرق الأوسط كله، كما كان يعمل في الشرق الأدنى القديم كله.
المشكلة الآن يمكن إيجازها في: إسرائيل لديها تصور للشرق الأوسط، تعلنه ولا تخفيه وتسعى لأن تفرضه بالقوة، وفي المقابل، فإن أهل الشرق الأوسط الحقيقيين ليس لديهم تصور مضاد، بل البعض ليس عنده مانع من الامتثال للمشروع الصهيوني، القوى الثلاث التي بالمنطق يصعب عليها الامتثال لقواعد شرق أوسط صهيوني، هي قوى الشرق الأدنى القديم، كما هي قوى الشرق الأوسط في العصور الوسطى، كما هي التي ينبغي أن تكون قائدة الشرق الأوسط الراهن، وهي: مصر وإيران وتركيا، والمؤكد أن القوى الثلاث خرجت من دروس الحرب 2023 – 2025، ولديها اقتناع جديد، لم يكن لديها من قبل، بأن الخطر الإسرائيلي يدخل طوراً جديداً، يستدعي أن يتفاهم المصريون والإيرانيون والأتراك على قواعد للتفكير، ثم العمل المشترك؛ كيلا يكون الشرق الأوسط رهينة للصهيونية.
فهل ذلك ممكن؟ وفي أي حدود؟ وإلى أي مدى؟
هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.
-----------------------------
بقلم: أنور الهواري
* نقلا عن مصر 360