20 - 08 - 2025

من وعد (بلفور) إلى وعد (أبو حنان)

من وعد (بلفور) إلى وعد (أبو حنان)

في عام ١٩١٧ صدر وعد بلفور المكون من بضع كلمات والذي تمكنت من خلاله الحركة الصهيونية العالمية من إقامة دولة إسرائيل بشكل رسمي في عام ١٩٤٨ على أرض فلسطين العربية.  رغم أن مؤسس فكرة الدولة الصهيونية (ثيودور هرتزل) كان ملحدا لكنه استغل السردية التلمودية المفبركة عن العودة إلى صهيون أو الرجوع إلى أرض الميعاد التي وهبها الرب أو الإله ( أدوناي يهوه) إله بني إسرائيل لشعبه. ومن الجدير بالذكر أن هرتزل في كتابه (الأرض القديمة الجديدة) الذي تناول فيه رؤيته لدولة إسرائيل كان يتحدث عن دولة علمانية ليبرالية - (يوتوبيا) متعددة الأعراق - تضم العرب واليهود والأتراك وتستقطب العلماء والباحثين والمبدعين من دول الجوار العربي ومن دول حوض البحر المتوسط.

 وأضاف هرتزل في كتابه أن هذه الدولة سوف تمد طرقاً وجسوراً برية وبحرية تنفتح على العالم وتربط بين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا من أجل تحقيق الرخاء لشعوب المنطقة. لقد كانت رؤية هرتزل تختلف تماماً عن رؤية الحكومة المتطرفة الحالية في إسرائيل التي تدعو لإقامة دولة لليهود فقط (دولة الجيتو) بين أسوار الجدار العازل وطرد السكان العرب خارج الحدود وهي الرؤية المشبوهة التي تساندها الصهيونية المسيحية واليمين المتطرف في أمريكا من أتباع الطوائف الإنجيلية المتشددة الذين يعتقدون ويؤمنون بضرورة طرد الفلسطينيين وإبادتهم، ثم إقامة هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى تمهيداً لتسريع عودة المسيح مرة أخرى. 

تاريخياً استطاع الصهاينة بنجاح توظيف الأسطورة التوراتية/التلمودية لخدمة أغراض سياسية وتوسعية وأفلحوا بمساعدة رأس الأفعى (بريطانيا الاستعمارية) في إقامة دولة إسرائيل التي تسيطر حاليا على منطقة الشرق الأوسط بلا منازع عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وذكاءً اصطناعياً..... الخ. بعدما تم تحييد أهم دول الجوار وتقييد الدول الأخرى الفاعلة بمعاهدات - الله وحده يعلم إن كانت سوف تستمر أو تُنقض: (كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)

لذلك شعرتُ بالدهشة والاندهاش والدَهَش من رد فعل بعض الدول العربية جراء تصريح النتن عن نواياه في إقامة إسرائيل (الشقيقة) الكبرى التي وفق الخريطة المعروفة سلفاً سوف تضم كل فلسطين وكل الأردن وأجزاء شاسعة من سوريا ولبنان والعراق ومصر والجزيرة العربية حيث كان اليهود يسكنون في الماضي القريب. وهذا كلام منطقي وتغيير السرديات أمر متداول ومقبول لدى أبناء العم.  

مثلاً، الحركة الصهيونية في البداية ادعت أن فلسطين أرض بلا شعب ولذلك يمكن تسليمها لشعب بلا أرض – شعب عاش في الشتات قروناً. وكان الصهاينة الأوائل من أمثال جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل أثناء حرب أكتوبر 1973 يحملون جوازات سفر فلسطينية. بعد ذلك ادعى الصهاينة أنهم عادوا لأرض أجدادهم حيث كانت مملكتا داوود وسليمان في القرن العاشر قبل الميلاد اللتين استمرتا لمدة 80 عاما فقط. 

وقالوا كذلك أنهم كانوا يسكنون في الضفة الغربية (يهودا والسامرة) أثناء السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد عندما هاجمهم ملك بابل (نبوخذ نصر الثاني) ودمر الهيكل الأول وأخذ منهم أسرى إلى بابل في العراق قبل أن يحررهم ملك الفرس كورش الكبير الذي أعادهم للقدس من أجل أن يعيدوا بناء الهيكل.

 كذلك ثمة سرديات يهودية عن فتح يوشع بن نون للأرض المقدسة بعد قضاء أربعين عاماً في التيه (الشتات) في صحراء سيناء أيام موسى وهارون. وسواء كانت الأرض المقدسة هي أورشليم أو أريحا أو منطقة جبل الطور أو أماكن أخرى وسواء دخل يوشع بن نون (وقيل إنه شخصية خيالية أسطورية) - وهو الذي جاء بعد وفاة النبي موسى- هذه البلاد للقضاء على العماليق أو (البطاريق) أو غير ذلك فمن المؤكد أن شعوباً عديدة قد عاشت في أرض فلسطين ولا يستطيع أي شعب أن يدعي أنه من يملكها بمفرده بناءً على وعد إلهي أسطوري أو وعد سياسي مشبوه مثل وعد بلفور الذي أعطى أرضاً لا يملكها الإنجليز لشعب جاء معظمه من أوروبا. المهم في الأمر هنا أن من يريدون طرد الفلسطينيين لأن أجدادهم اليهود قد سكنوا هذه الأرض في الماضي السحيق لن يتورعوا عن استخدام نفس الذريعة عند الحديث عن إسرائيل الكبرى والسعي للسيطرة على مناطق واسعة من دول عربية كانت الجاليات اليهودية الشرقية تعيش فيها حتى مطلع الخمسينات من القرن الماضي. 

  كان يجب على الدول التي شجبت إعلان النتن أن تتمهل وتعيد قراءة التاريخ وتتذكر كل هذه الحكايات وقصص الوعود المتتالية التي استغلتها الحركة الصهيونية سابقاً. أما النتن الماكر الذكي الذي درس ألاعيب المحاماة واشتغل في مجال التسويق ويعرف كيفية المراوغات وقلب الحقائق لم يراوغ هذه المرة وكان واضحا جدا ولم يكتم سر إقامة إسرائيل الكبرى ببساطة لأنه لم يعد سراً. لذلك كان يجب على من ندد ورفض واعترض على تصريح النتن أن يتذكر أن العم ترامب قد وعد بتوسيع مساحة إسرائيل الصغيرة جدا كما قال في لقاء تليفزيوني مذاع على الملأ (وعد أبو حنان).  

لقد شعر الرجل بأن دولة الاحتلال الديمقراطية المتطورة للأسف لا تشغل سوى مساحة محدودة على خارطة الشرق الاوسط الكبيرة ولذلك يجب مد حدود الكيان مع عدم الالتفات إلى الدول التي سوف تقتطع أجزاء من أراضيها. و(أبو حنان) رجل عملي جدا وهو رجل يسعى للسلام وقد سبق له أن أهدى مرتفعات الجولان السورية إلى إسرائيل دون حياء ولا كسوف لأن الرجل مكشوف الوجه (وش فضايح) لا يخجل ولا يستحي ولا يقيم وزنا لأحد ويحب القيام بدور السمسار والمطور العقاري وأشياء أخرى تتعلق بالنساء. 

ويبدو أن وعد ترامب لبني إسرائيل في طريقه إلى التنفيذ على أرض الواقع وقد لاحت بشائره بضم أجزاء واسعة من سورية وجنوب لبنان والتمهيد لفتح ممر داوود الذي يربط الجولان المحتل بالسويداء السورية ومن ثم  بمنطقة الأكراد ناحية الشرق والتي تطل على نهر الفرات، وهكذا يتحقق نصف حلم إسرائيل الكبرى بالوصول إلى الفرات ولاحقا (حسب الشائعات) يتم توصيل مياه النيل لصحراء النقب عن طريق سيناء ( في مقابل حل مشكلة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا) وهكذا يتحقق الجزء الثاني من الحلم ( من النيل إلى الفرات ) وبعد ذلك يستكمل الحلم في أراضي الجزيرة العربية حسب الادعاءات المعروفة. 

ومع إرهاصات وبدايات تحقيق الحلم الصهيوني خرج الدروز في مظاهرات حاشدة في السويداء منذ يومين ضد حكومة الجولاني الشرعية في سورية والتي تعاملت بقسوة وعدم مسؤولية مع خلافات نشبت بين الدروز والبدو أبناء العشائر في السويداء، ولذلك أعلن الدروز  على الملأ أنهم يريدون الانضمام  لدولة إسرائيل الديمقراطية الشعبية وقد تظاهروا لساعات رافعين أعلام إسرائيل وهم يهتفون ( الشعب يريد دخول إسرائيل) ويمكن للأخوة الدروز الذهاب والعيش في دولة الكيان منذ هذه اللحظة ومغادرة الأراضي السورية بدلاً من دعوة إسرائيل لاحتلال البلاد، ولا أظن أن هناك من داخل سورية أو خارجها من يمنعهم من الهجرة وعبور الحدود. 

وبالعودة لتصريح النتن وحكومته المتطرفة عن حلم إسرائيل الكبرى المزعومة فمن المثير للجدل أن مكتب النتن لم يعلق على هذا التصريح الخطير ولم يقدم اعتذارا ولم يرد أحد من حكومة الكيان على تساؤلات الحكومات والجهات التي اعترضت ونددت وشجبت البيان كالعادة. وهذا الصمت يزيد الطين بلة ويطرح المزيد من الأسئلة عن نوايا حكومة الكيان المتطرفة في السنوات القادمة.  لقد قالها النتن صراحة للمتطرف الذي استضافه في القناة التليفزيونية العبرية وأعطاه خارطة إسرائيل الكبرى المزعومة كهدية ليوصلها النتن إلى زوجته الجميلة. 

أثناء المقابلة قال له النتن أن لديه مهمة مقدسة وروحانية ودينية تتعلق باستكمال حلم الآباء ومن وضعوا لبنات الدولة في عام ١٩٤٨ (ومنهم والده المتطرف الصهيوني) بتوسيع حدودها واستكمال مشروع إسرائيل الشقيقة الكبرى وهو الأمر الذي يردده كل وزراء الحكومة الحالية تقريبا خاصة الوزير (بن حمير). ومسألة المهمات المقدسة التي ينسبها بعض السفاحين والقتلة لأنفسهم تذكرنا بالرئيس بوش الابن الذي طلب منه الرب في المنام القيام بتدمير أفغانستان والعراق والقضاء على الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة في العراق وكان الهدف هو تدمير جيش العراق وتفكيكه وتسريحه لصالح الشقيقة إسرائيل بالطبع. 

ولا ننسى في هذا الصدد الزعيم البرتقالي (أبو حنان) الذي أنقذه الرب من الاغتيال ليقوم بمهمة مقدسة ويحول غزة إلى ريفيرا بعد تهجير السكان. وبالطبع يساعد الكيان على تحقيق أحلامه التوسعية كما قال له سفيره في الكيان الذي أكد أن (أبا حنان) مفوض من الرب الذي أنقذه من الموت للقيام بخدمة الكيان.

  ما يجب أن يعلمه الجميع أن الدول الاستعمارية الكبرى ومعها إسرائيل لا تقيم وزنا لقوانين ولا معاهدات دولية ولا تحترم قرارات الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن (الله يرحمه) ولا المحاكم الدولية ولا ما يسمى بالمجتمع الدولي. كل ما يهمها هو تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية دون النظر لتداعيات ذلك على الشعوب الأخرى الكادحة.

 في عهد القطب الواحد تم خلط جميع الأوراق الجيوسياسية والاقتصادية وتم استخدام الفيتو الأمريكي عدة مرات بلا رحمة ضد قرارات تدعو لإيقاف الهولوكوست ومحارق السكان المدنيين في غزة وإدخال المساعدات للأطفال الجوعى وتم منع الأونروا (وكالة غوث اللاجئين) من توزيع الأطعمة ولبن الأطفال ومستلزمات الحياة على المشردين والمحاصرين.

في (العهد الترمبي السعيد) ومن قبله (عهد المخبول بايدن) وفي زمن تقاعست فيه العديد من الدول والتزمت الصمت تجاه المذابح والتجويع للأبرياء في غزة وتنامت فيه سطوة الحكومات والكيانات المتطرفة وتعالت أصوات من يؤمنون بالخرافات والخزعبلات الدينية وزادت وتيرة استغلال الأساطير التوراتية من قبل من يملكون القرار والقوة العسكرية لتحقيق أهداف جيوسياسية وأيديولوجية شريرة - في هذا السياق المخيف والمرعب لا أحد يعلم ما يخبئه المستقبل لمنطقة الشرق الأوسط و(منك لله يا حماس). وربنا يستر على حبيبنا الوطن العربي الشقيق الذي نقول له بمنتهى الشفافية (إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب).  
-----------------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
نياجرا –أونتاريو – كندا

مقالات اخرى للكاتب

من وعد (بلفور) إلى وعد (أبو حنان)