حين نتأمل هذه الصورة التي جمعت رؤساء حكومات أوروبا وهم يجلسون أمام الرئيس الأمريكي بالبيت الأبيض، لا نرى مجرد اجتماع دبلوماسي عادي، بل مشهدًا مكثفًا لكل ما يختزن من معاني الخضوع والتبعية والارتهان. الطريقة التي جلسوا بها، وكأنهم تلاميذ في حضانة أطفال، تكشف عن انهيار صورة "أوروبا العجوز" التي طالما تباهت بتاريخها الاستعماري، وتراثها الثقافي، وفكرها التنويري الذي ادّعت أنه صنع قيم الحرية والاستقلال. لكن ما الذي تبقى من كل ذلك أمام هيمنة السيد الأمريكي؟ لا شيء سوى خضوع صامت، وابتسامات صفراء، وأجساد متقوسة في مقاعد أشبه بمقاعد انتظار المرضى أمام طبيب متعالٍ.
المشهد بحد ذاته فضيحة حضارية. أوروبا التي كانت تصنع قرارات الحرب والسلم في العالم لقرون، وتفرض شروطها على الأمم، نجدها اليوم تتسابق ذليلة لتنال رضا البيت الأبيض. هؤلاء القادة الذين يزعمون أنهم يمثلون ديمقراطيات مستقلة، يجلسون في وضع لا يوحي إلا بالارتهان الكامل. إنهم لا يتحدثون من موقع ندّية، ولا يرفعون صوتًا يناقش، بل يجلسون وكأنهم في درس تلقين، كأن الرئيس الأمريكي هو المعلّم الأعلى، وهم مجرد تلاميذ صغار يسجلون الأوامر والتعليمات.
إنها صورة تختصر تاريخًا من التواطؤ الأوروبي مع السياسات الأمريكية. من غزو العراق، إلى التواطؤ مع الكيان الصهيوني، إلى الانخراط في حروب الناتو، وصولًا إلى التغطية على الجرائم التي ترتكبها واشنطن في كل أصقاع الأرض. أوروبا لم تعد قارة القرارات الكبرى، بل تحولت إلى ملحق استراتيجي للولايات المتحدة. إن هذه المقاعد التي جلسوا عليها ليست مقاعد مداولات سياسية، بل مقاعد امتحان في الولاء، حيث ينجح فقط من ينحني أكثر.
الخزي في الصورة لا يعود فقط إلى طريقة الجلوس، بل إلى ما تمثله من مشهد رمزي: الغرب الذي طالما روّج لشعار "الشراكة عبر الأطلسي"، يفضح نفسه اليوم باعتباره مجرد طرف تابع. لا مكان للمساواة، ولا وجود لتحالف حقيقي، بل علاقة سيد بعبيده. أوروبا ـ بكل تاريخها وعظمتها المزعومة ـ تبدو وكأنها فقدت الإرادة والكرامة معًا.
المفارقة أن هؤلاء القادة الذين يملأون خطاباتهم بكلمات عن "السيادة"، و"الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان"، لم يتجرأوا على الجلوس كقادة أنداد. جلسوا كما يجلس موظف صغير أمام مديره المتغطرس. هذه الوضعية الجسدية ليست عابرة، بل هي لغة بصرية فاضحة تكشف اللاوعي السياسي: لقد استبطنوا تبعيتهم حتى صار الجسد نفسه يعبر عنها.
إنها ليست مجرد جلسة، إنها شهادة على انكسار أوروبا. صورة يمكن أن تُعلّق في كتب التاريخ كتجسيد لمرحلة سقوط المعنى في السياسة الغربية. حين تتحول أوروبا كلها إلى صف صغير أمام المدرّس الأمريكي، ندرك أن العالم يعيش فعلًا زمن القطب الواحد، حيث تذل القارات، وتُكسر الكرامات، تحت وطأة ابتسامة الرئيس الأمريكي ونظرته الاستعلائية.
العار ليس على القادة وحدهم، بل على شعوبهم أيضًا التي قبلت أن ترى ممثليها المنتخبين بهذا المشهد. كيف يمكن لمواطن أوروبي أن يصدق أن صوته الانتخابي يصنع قرارًا مستقلًا بينما قادته يجلسون كالأطفال في حضرة السيد الأمريكي؟
الصورة ليست صورة بروتوكول، بل صورة انكشاف: انكشاف التبعية، وفضيحة للخطاب الديمقراطي الغربي، وانهيار لأسطورة السيادة الأوروبية. إنها لحظة تجسّد كيف يمكن للزمن أن ينقلب، وكيف يمكن للذي كان مستعمرًا أن ينتهي مستعمَرًا، ولو بطرق ناعمة. أوروبا جلست في حضانة السياسة الأمريكية، والعار أن أحدًا منهم لم يتجرأ على النهوض واقفًا ليقول: نحن قادة، ولسنا تلاميذ.
-----------------------------------
تقرير - محمد الحمامصي