18 - 08 - 2025

سِكتنا له.. دخل بحماره (٤)

سِكتنا له.. دخل بحماره (٤)

ذكرنا أن العم سُمعة على وقاحته وغباوته وعناده وسوء جواره الذى كان يأتيه عن رجاء مفرط، أو عن تهاون واستخفاف، أو عن استحقاق مكذوب، أو عن كل ذلك جميعًا، كانت له من الخصال الحسنة نصيب لا ينكر، فإن الرجل قبل أن يمتهن العربجة كان يتخذ الفلاحة مهنة، وإنى لم أسأله عن ذلك، ولا هو أخبرنى به، ولا أخبرنى به صاحبى، لكنه يبين فى مخايل وجهه، ولهجة لسانه، واستمساكه بحماره ذى الأربع وقد هجر الناس حُمُرَهم، واعتاضوا منها المركبات ذوات الثلاث المسماة (التريسيكل)، أو ذوات الاثنتين المسماة (الموتوسيكل)، ولقد أورثته مهنة الفلاحة (إن صدق ظنى) بقايا خصال من طيب الخُلق، تراها فى رحمته لما تحت يده من البهيمة، فكنت تراه يتوخى بحماره مساقط الظل فى الحر، ويدفئه بالغطاء إن اشتد الشتاء، ويلتمس له الحلاق الحين بعد الحين، بل كان يدعوه تدليلًا (عسلية)، ولست أذكر أنى رأيت العم سُمعة يتناول (عسلية) هذا بعصا ولا سوط كسائر العربجية، وكانت فى سُمعة فلتات من أخلاق القرية الطيبة، وكانت فيه ألفة ودماثة وحُسن تلطف تحمله على الانبساط إلى الناس، وتحمل الناس على إلفه، والانبساط إليه، والائتناس به، وكان العم سُمعة قد أربت على الستين سِنُّه، فإذا رأيت اعتدال وجهه، وانتصاب بدنه، وحسن مشيته قدّرت عمره بأنه دون الخمسين عامًا، وكان لا يزال فيه نشاط وجلَد ودأب ليست عند من هو أشبّ منه.

لكن العم سُمعة يأبى علينا أن نذكر محاسنه دون أن يكدرها علينا، فإنه ولئن كان النشاط والدأب من الصفات المحمود صاحبها، فإن فرط النشاط والدأب إن اجتمع إليها فرط الوقاحة نال الناس منها أذى شديد، ولقد كان فرط نشاط سُمعة هذا مع فرط وقاحته هما القشة التى قطعت ما بينه وبين صاحبنا، وعجّلت بزحزحته هو وحماره وأذاهما عن جدار الدار وأهله.

فلقد كان ذات يوم أن سمع صاحبى صوت ضرب بالحديد فى بعض مرافق البناية من خلف، فنظر فإذا سُمعة قد ساءه انسراب مياه من بعض أنابيبها فجعل ينقب جهارًا نهارًا بعض مرافق الدار لتنصرف إليه المياه، فحينئذ علم صاحبى أنه لا حياء الوجه، ولا لين القول يجدى مع (صنف يخاف ما يختشيش)، فرأيت صاحبى هذا إنسانًا غير الإنسان الذى عرفته، رأيته وهو غضبان منتفخًا على سُمعة إهابه، وقد ألقى عن مُحيَّاه برقع الحياء، وكشف عن وجه جرىء وقاح، واستبدل بلسانه المهذب لسانًا أشد وأمضى وأغلظ، ثم خرج إليه صائحًا مشمِّرًا زاجرًا، وقد جاء له بقديم سوابقه وسوءاته، والآخر يجيبه بالأعذار، ويمضى فى تنقيبه وتخريبه غير مبالٍ بقول ولا بقائل، فلما وجده صاحبنا قد بلغ من الوقاحة والتجرؤ هذا المبلغ انطلق إلى بعض الجيران ليشهدوا الأمر، فلما جاؤوا وشهدوا عمل الرجل فكأنه تهيبهم فى نفسه، فأمسك يده عن التنقيب فى مرفق البناية حين أُمر بذلك، وحَوّل العربة والحمار عن الجدار حين أُمر بذلك، ثم انفض القوم ظانين انفضاض الخصومة.

لكن العم سُمعة لم يكن ليستقيم لجاره على طريقة، فهو وإن أعفى صاحبنا من حماره وعربته وتخريبه، وظن أنه قد أدى ما عليه ولا تثريب عليه، فإنه قد أقام حماره وعربته قبالة مدخل البناية بحيث تؤذى العين والأذن والنفس، فإن صاحبنا كان إذا دخل أو خرج أو فتح شباكه للشمس والريح استقبله الحمار، ورجيعه، ونهيقه! فلم يكن بد لصاحبنا من الاستعانة بالمراسيل والمناديب ليتحدثوا إلى سُمعة ليحوِّل حماره وعربته عن وجه البناية، فما زالوا به حتى تحوَّل بهما إلى جدار قريب فآواهما إليه.

فهل كانت البضع من الأمتار هذه بالتى تحتاج إلى إنفاق هذا الزمن، والشحناء، والتصايح، يا سُمعة؟! (يُتبع)..
----------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

سِكتنا له.. دخل بحماره (٤)