18 - 08 - 2025

سلاح حزب الله بين الإملاءات الصهيو أمريكية والانقسام اللبناني الداخلي

سلاح حزب الله بين الإملاءات الصهيو أمريكية والانقسام اللبناني الداخلي

السؤال المحوري الذي يفرض نفسه على الموقف اللبناني، الذي يقبع منذ عقود بين مطرقة الإملاءات الأمريكية الإسرائيلية الصهيونية وسندان الانقسام الداخلي، هو: هل من المنطقي أن يطالب أحد بنزع سلاح حزب الله في ظل بقاء الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وفي ظل الانتهاكات الجوية والبحرية شبه اليومية التي يتعرض لها لبنان؟ إن النظر إلى هذه المعادلة يكشف عن خلل واضح: فبينما يُطلب من لبنان التخلي عن عنصر قوته الوحيد الذي شكّلت رادعًا منذ عام 2000، لا تقدم إسرائيل أي ضمانة حقيقية لاحترام السيادة اللبنانية، ولا تلتزم بالانسحاب الكامل من الأراضي التي ما زالت تحتلها، فضلًا عن أنها تواصل التهديد والعدوان متى شاءت.

الذين يرفعون شعار نزع سلاح المقاومة داخل لبنان ليسوا قلة، ومن بينهم قوى سياسية وشخصيات وازنة مثل نواف سلام، وجوزيف عون، وسمير جعجع. هؤلاء وغيرهم ينطلقون من اعتبارات متعددة، أبرزها أن استمرار السلاح خارج الدولة يُبقي لبنان رهينة لمعادلات إقليمية معقدة، ويجعل الدولة ضعيفة أو عاجزة أمام المجتمع الدولي، ويهدد مسار بناء مؤسسات سيادية مكتملة. بالنسبة لهم، فإن احتكار الدولة للسلاح شرط لا غنى عنه لقيام نظام سياسي متوازن وتثبيت سيادة القانون. وهم يستندون أيضًا إلى تجارب داخلية سابقة أثارت المخاوف، حينما تحول سلاح حزب الله إلى عامل ضغط داخلي، كما في أحداث 7 مايو 2008، أو في معارك تشكيل الحكومات وموازين القوى داخلها.

لكن في المقابل، يقف تيار واسع من اللبنانيين على ضفة أخرى تمامًا. هؤلاء يرون أن المطالب بنزع السلاح، خصوصًا حين تأتي متزامنة مع إملاءات أمريكية وإسرائيلية صهيونية، ليست بريئة، بل هي جزء من خطة أوسع تهدف إلى تجريد لبنان من أي قدرة ردع في مواجهة إسرائيل. فالتجربة التاريخية القريبة تعطيهم ما يسند حجتهم: منذ اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، مرورًا بالانسحاب عام 2000 تحت ضغط المقاومة، وصولًا إلى حرب يوليو 2006 التي فاجأت إسرائيل بما لم تتوقعه من قدرة على الصمود والردع، كلها محطات كشفت بوضوح أن الجيش اللبناني وحده، في ظل إمكانياته المحدودة، لم يكن قادرًا على صد العدوان أو استعادة الأراضي المحتلة. المقاومة، بحسب هؤلاء، هي التي صنعت معادلة الردع، وأجبرت إسرائيل على إعادة حساباتها مرات عدة. لذلك فإن التخلي عن السلاح قبل ضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل ووجود ضمانات دولية رادعة لن يكون سوى تنازل مجاني يترك لبنان مكشوفًا أمام أي عدوان.

هذا الانقسام  يطرح سؤالا أوسع هو: هل لبنان بلد محايد صغير يكتفي بدور الوسيط التجاري والثقافي في المنطقة، أم أنه جزء لا يتجزأ من الصراع العربي الإسرائيلي، ومن حقه وواجبه أن يمتلك عناصر القوة اللازمة لمواجهة عدو لا يعترف بسيادته بل ويعمل طوال الوقت على التوسع في احتلال أراضيه؟ الإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد الموقف من سلاح حزب الله، وهي التي تحدد في الوقت نفسه كيفية التعاطي مع الإملاءات الصهيوأمريكية.

الصهيونية الأمريكية الإسرائيلية تدرك جيدًا أن سلاح حزب الله يشكل عقبة أساسية أمام مشاريعها الاستعمارية في المنطقة. فبالنسبة لإسرائيل، لا يمكن أن تستقر معادلة تفوقها العسكري طالما أن هناك قوة لبنانية قادرة على تهديد عمقها. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن دعم إسرائيل وحمايتها من أي تهديد يظل أولوية استراتيجية، فضلًا عن رغبتها في تقليص نفوذ إيران الإقليمي، الذي يُعتبر حزب الله إحدى أدواته الأكثر تأثيرًا. لهذا السبب، لم تكن العقوبات الاقتصادية ولا شروط المساعدات الدولية للبنان سوى أدوات ضغط هدفها دفع الدولة اللبنانية إلى مواجهة داخلية مع الحزب. وهنا يبدو خطاب القوى اللبنانية المطالبة بنزع السلاح وكأنه صدى لهذه الضغوط الصهيوأمريكية، حتى وإن كان منطلقه هواجس سيادية مشروعة. أما القوى المؤيدة للمقاومة، فترى أن هذا التلاقي بين المطلب الخارجي والطرح الداخلي يضعف جبهة لبنان الداخلية، ويمنح إسرائيل فرصة ذهبية لتكريس تفوقها.

لكن هناك اعتبارات لا يمكن إنكارها، لأنها جزء من الواقع اللبناني المركّب، وهي تتمثل في استمرار السلاح خارج سلطة الدولة مما يطرح إشكاليات حقيقية على مستوى بناء الدولة نفسها.. ومع ذلك، فإن حلها لا يمكن أن يكون بقرار أحادي أو بإملاء صهيوأمريكي واضح، بل من خلال توافق وطني حقيقي على استراتيجية دفاعية تدمج قدرات الجيش والمقاومة، وتحدد بوضوح آليات استخدام السلاح في مواجهة إسرائيل.

محاولات عدة شهدها لبنان لصوغ مثل هذه الاستراتيجية، خصوصًا في طاولات الحوار الوطني التي عُقدت في بيروت مرارًا منذ منتصف العقد الأول من الألفية. لكن الانقسامات الطائفية والسياسية حالت دون التوصل إلى اتفاق. فكل طرف ينطلق من حساباته الخاصة: بعض القوى المسيحية والدرزية والسنّية ترى أن حزب الله يكرّس خللًا في التوازن الداخلي لمصلحة الطائفة الشيعية، بينما تعتبر البيئة الشيعية أن السلاح ليس مجرد أداة سياسية، بل هو ضمانة وجود في مواجهة عدو لا يفرّق بين طائفة وأخرى عندما يعتدي على لبنان. وهكذا، فإن النقاش حول السلاح يتجاوز البُعد الأمني أو الاستراتيجي ليصبح قضية هويّة وطائفة ودور، ما يجعل التوصل إلى تسوية شاملة أكثر تعقيدًا.

في ظل هذا الانقسام، يبقى العامل الإسرائيلي حاضرًا بقوة. فمنذ انسحابها عام 2000، لم تتوقف إسرائيل عن خرق الأجواء اللبنانية يوميًا تقريبًا، ولم تُبد يومًا استعدادًا للتخلي عن أطماعها في مياه لبنان البحرية، ولا عن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي لم تعترف الأمم المتحدة حتى الآن بلبنانيتها بشكل قاطع. حرب 2006 كانت محطة مفصلية أظهرت أن المقاومة قادرة على إلحاق خسائر بإسرائيل غير مسبوقة. من هنا، فإن أي نقاش جدي حول نزع السلاح لا يمكن أن يتجاهل وجود تهديد دائم ومتكرر، ولا يمكن أن يُبنى على افتراض أن إسرائيل ستتحول فجأة إلى جار مسالم.

أما الولايات المتحدة، فهي تتحرك في إطار أوسع من لبنان ذاته. فحساباتها مرتبطة بالشرق الأوسط ككل: حماية أمن إسرائيل كأولوية مطلقة، واحتواء النفوذ الإيراني، وضمان استمرار تفوق إسرائيل النوعي في السلاح. لذلك فإن خطابها حول "السيادة اللبنانية" و"بناء الدولة" يبدو متناقضًا، لأنه في الجوهر يخدم هدفًا واحدًا: إضعاف حزب الله، وتمكين إسرائيل من فرض هيمنتها بلا منازع. وهذا ما يجعل جزءًا من اللبنانيين يقرأ المطلب الأمريكي على أنه ليس سوى استبدال تبعية بتبعية أخرى، لا خروجًا من منطق المحاور.

المقاربة الأكثر واقعية تكمن في بلورة رؤية لبنانية مستقلة تنطلق من مسلّمة أولى، وهي أن نزع سلاح حزب الله غير ممكن ما دامت إسرائيل تحتل أراضي لبنانية وتواصل التمدد والاعتداء اليومي على السيادة الوطنية. وفي المقابل، لا يمكن ترك هذا السلاح خارج إطار الضوابط أو من دون استراتيجية وطنية واضحة، لأنه سيظل عامل توتر داخلي ومصدر انقسام سياسي. ومن هنا، فإن تجاوز هذه المعضلة يتطلب توافقًا لبنانيًا شاملًا على استراتيجية دفاعية تدمج بين قدرات الجيش والمقاومة، بحيث يُحصر قرار الحرب والسلم في يد الدولة لا في يد أي طرف منفرد.

من الطبيعي أن يطالب نواف سلام أو جوزيف عون أو سمير جعجع أو غيرهم بنزع السلاح، فهذا يدخل في إطار حرية الرأي والتعبير السياسي. غير أن النقاش يصبح إشكاليًا عندما يُفصل عن السياق الأوسع: الاحتلال الإسرائيلي القائم، والاعتداءات اليومية المستمرة، وغياب أي ضمانات دولية فعلية في ظل هيمنة أمريكية ـ إسرائيلية على قرارات الأمم المتحدة، حيث تُهمَّش اعتراضات الجمعية العامة بلا أثر. فالواقع يؤكد أن الأمن الوطني لا يقوم على التمنيات أو الخطابات، بل على معادلات ردع ملموسة. والتجارب العربية القريبة، من فلسطين إلى العراق وسوريا، تكشف بوضوح أن الدول التي تخلّت عن عناصر قوتها قبل أن تحصّن أمنها القومي، دفعت لاحقًا ثمنًا باهظًا، ووجدت نفسها مكشوفة أمام الأطماع الاستعمارية.

من جانب آخر فإن الموقف اللبناني بين الإملاءات الصهيوأمريكية  ليس مجرد مسألة تقنية تتعلق بالسلاح، بل هو في جوهره صراع على هوية لبنان ودوره في المنطقة. هل سيكون لبنان بلدًا ضعيفًا منزوع السلاح يعيش على أوهام حماية دولية لم ولن تتحقق يومًا، أم سيكون بلدًا يملك عناصر قوة توازن الردع ولو على حساب تعقيدات داخلية؟ الجواب حتى الآن لم يُحسم، لكنه سيظل رهن توازن القوى الداخلية، وحجم التهديدات الخارجية، وقدرة اللبنانيين على صياغة رؤية وطنية جامعة.

لذا فإن أي حديث عن نزع سلاح حزب الله قبل انسحاب إسرائيل بالكامل من الأراضي اللبنانية هو أقرب إلى مغامرة سياسية غير مأمونة منه إلى حل واقعي. لأنه يطالب لبنان بأن يضع نفسه أعزلا في مواجهة عدو لم يتوقف يومًا عن ممارسة العدوان. أما الحل الأمثل، فيظل مرهونًا بتحقيق معادلة متوازنة: انسحاب إسرائيلي شامل، وضمانات دولية حقيقية، وتوافق لبناني داخلي على صياغة استراتيجية دفاعية وطنية تُخرج السلاح من دائرة الانقسام الطائفي والسياسي وتضعه في إطار سيادة الدولة الجامعة. وعندها فقط يمكن للبنان أن يتجاوز هذه المعضلة التاريخية، ويؤسس لدور وطني جامع يحميه من الإملاءات الخارجية ويؤمّن له مستقبلًا أكثر استقرارًا.
----------------------------
بقلم: محمد الحمامصي


مقالات اخرى للكاتب

سلاح حزب الله بين الإملاءات الصهيو أمريكية والانقسام اللبناني الداخلي