في محاورة الوليمة (Symposium) للفيلسوف اليوناني أفلاطون، يسرد الكوميدي الساخر أريستوفانيس أسطورة مدهشة لتفسير أصل الحب. يروي أن البشر كانوا في البدء كائنات مزدوجة، تجمع في جسد واحد بين الذكر والأنثى، وتمتاز بقوة وسرعة هائلتين مكنتهما من تحدي الآلهة ذاتها. وللحد من خطرهم، شقّ الإله زيوس كل كائن إلى نصفين وفرق بينها (ذكر/ أنثي) من أجل إضعاف البشر وجعلهم غير قادرين على تحدي الآلهة، ومنذ ذلك الحين، غدا كل إنسان يحمل حنينًا عميقًا إلى نصفه المفقود، يبحث عنه بشوق لا يُشفى، في سعيٍ دائم نحو العودة إلى حالته الأولى من الوحدة والاكتفاء.
هذه الأسطورة التي قد تبدو للوهلة الأولى محض خيال ميثولوجي، تُجسّد في جوهرها تصوّرًا فلسفيًا عميقًا عن الحب بوصفه حاجة روحية وجودية للاندماج، والرغبة في استعادة وحدة ضائعة. ويتجلى هذا المعنى بوضوح لافت في الفيلم الياباني «اسمك»"Your Name" (2016) للمخرج ماكوتوشينكاي، حيث يأخذ الحب بعدًا ميتافيزيقيًا، مرتبطًا بالزمن، والذاكرة، والقدر. فالبطلان – رغم تباعد المكان والزمان بينهما – يخوضان رحلة بحث روحي وشعوري عن بعضهما، كما لو كان كل منهما نصفًا ضائعًا يبحث عن الآخر ليكتمل.
ومن هذا المنطلق حظي الفيلم بنجاح كبير، يعود في جانب منه إلى هذا التوتر العاطفي العميق الذي يشد المشاهد، فهو لا يشاهد قصة حب عادية، بل يتورط في أسطورة معاصرة عن البحث الأبدي عن النصف الآخر ذلك الذي يعيد للروح وحدتها الأولى.
يعتمد الفيلم على أسطورة يابانية شنتوية، التي تعني "طريق الآلهة". وتأتي هذه الأساطير على لسان الجدة لحفيدتيها أثناء تأدية الطقوس المتوارثة الخاصة بالإله موسبي إله الزمن، والقادر على «توحيد الناس، والمحدد لجريان الزمن». وتوضح الجدة أن النسيج الذي تصنعه هو فن الإله موسبي، حيث تشكل خيوطه جريان الزمن، إذ «تتجمع وتكوّن شكلاً، وتتشابك، وتنحل أحيانًا، وتنفصل ثم تتصل مجددًا».
تشكل هذه الرؤية الشنتوية أساسًا فلسفيًا للفيلم، إذ يُقدَّم الحب والارتباط بين الشخصيتين الرئيسيتين بوصفه نتيجة لهذا التداخل بين الزمن والمكان والمصير، ضمن نسيج مقدّس تصنعه الآلهة.
هذه الأسطورة هي التي تفسر لنا آلية تبادل الأجساد العجائبية التي تحدث بين الفتاة الريفية ميتسوها، والشاب الوسيم ابن العاصمة طوكيو تاكي-كن. يبدأ الأمر بصرخة ضيق تطلقها ميتسوها، تتمنى فيها من الآلهة أن تجعلها في حياتها القادمة شابًا وسيمًا يعيش في طوكيو، بعدما سئمت حياة الريف الرتيبة، التي لا شيء مسليًا فيها والوقت يمضي ببطء. ميتسوها لم تكن بحاجة إلى حياة جديدة، إذ سرعان ما وقعت في تلك الظاهرة الغريبة، التي بدت كحلم واقعي تمامًا. حالة لم تكن غريبة على عائلتها، بل هي عادة موروثة تمر بها نساء العائلة عبر الأجيال وستكون سببًا في إنقاذ قرية كاملة من الإبادة.
الانتقال من بيئة إلى أخرى، ومن جنس إلى آخر، يخلق سلسلة من المواقف المضحكة دون افتعال. ينتقم كل طرف من الآخر على طريقته، تنفق ميتسوها أموال تاكي في المطاعم، وتمارس حياته اليومية بحرية، بينما يتصرف تاكي -وقد حلّ محلها- بجرأة وغرابة لا تتناسب مع أعراف الريف، ولا مع شخصية ميتسوها الهادئة. يذهب إلى المدرسة دون أن يمشط شعره، يتحدث بعدوانية، ويتصرف بلا مبالاة.
ومع تصاعد المواقف، يقرر الاثنان عقد اتفاقية يتعهدان فيها بألا يسيء أحدهما إلى صورة الآخر خلال فترة التحول، التي تحدث فجأة من مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيًا. يدوِّن تاكي ملاحظاته لميتسوها في دفترها، وتترك له هي رسائل على هاتفه الذكي، ويستمر هذا التناغم بعد فترة من المشاكسة والمتاعب، ويساهم كلٌّ منهما في إصلاح حياة الآخر، ويكمل النقص الذي يعانيه.
تستطيع ميتسوها -في جسد تاكي- أن توطد علاقته بزميلته في العمل، تلك التي طالما أُعجب بها ولم ينجح في لفت انتباهها بسبب منافسة زملائه. لكن المفارقة أن انتصاره يتحقق بفضل "اللمسة الأنثوية" التي كانت تنقصه، عندما يساعدها في خياطة ثوبها الذي مزّقه أحد الزبائن عمدًا، ليعيده أفضل مما كان عليه مستغلة خبراتها في الخياطة، لترى الزميلة فيه جانبًا لم تكن تعرفه من قبل فتقع في غرامه.
تتوطد العلاقة بين تاكي وزميلته في العمل، التي تلاحظ بدورها أن شخصيته تتبدل من يوم إلى آخر؛ فتارة يبدو حساسًا وودودًا، وتارة أخرى منطويًا أو على غير طبيعته. تتقرب منه وسط حسد زملائه. تدعوه إلى موعد، وفي نهاية اللقاء تدرك أن تاكي لم يعد يحبها. تتفهم حقيقة مشاعره، دون أن تعرف أسباب هذا التغير، أو أن تدرك أنه لم يكن هو نفسه دائمًا، وأنه قد وقع في غرام الفتاة التي يتلبس جسدها وتتلبس جسده.
فجأة ينقطع التواصل وتبادل الأجساد بين تاكي وميتسوها، فيشعر بالخواء، ويبدأ رحلة البحث عن حبيبته، يعيد رسم القرية التي لا يعرف لها اسمًا، ويقرر البحث عنها حاملًا تلك الرسومات معه، هو ما يذكرنا بما فعله فيروز شاه وهو يحمل خصلة شعر عين الحياة بحثًا عن صاحبة الخصلة التي وقع في غرامها، أو حتى إلى قصة سندريلا المعروفة.
يتنقل تاكي رفقة صديقين قررا أن يرافقاه في رحلته بحثًا عن تلك القرية التي توجد فيها حبيبته، لكن لا أحد يتعرف عليها من خلال رسوماته، وحين ييأس من وجودها ويقرر العودة يتفاجأ بأن صاحب المطعم يشيد بجودة رسمه لقريته «إيتوموري»، لكن هذه المفاجأة السعيدة لا تكتمل، إذ يعرف منه أن هذه القرية قد اختفت من الوجود منذ ثلاث سنوات بسبب نيزك ضربها وراح ضحيته 500 نسمة من سكان القرية وحولها إلى قرية خربة بلا سكان، يفتش تاكي في الأخبار القديمة، ينظر في أسماء الضحايا ويجد اسم ميتسوها بين الضحايا، غير مصدق أن ما كان يمر به من أيام فقط، هو تواصل أرواح مع فتاة ماتت منذ ثلاث سنوات، ليكتشف هنا أن الإله موسبي ليس قادرًا فقط على التنقل بين المكان فقط وإنما التنقل عبر الزمن أيضًا.
يقرر تاكي، الباحث عن نصفه الآخر، أن يستعين بأسطورة الإله موسبي ليعيد التواصل مع ميتسوها ويحذّرها من سقوط مذنب «تيامات»، في محاولة لإنقاذ قريتها من الدمار. يتجه إلى الضريح المقدّس، ويشرب من نبيذ ساكي الأرز الذي صنعته ميتسوها بطريقة يابانية خاصة متوارثة، ويستعين بالنسيج الذي يرمز إلى تداخل الزمن وتشابكه. وبالفعل، يتمكّن من الوصول إليها في اللحظة المناسبة.
في ذلك اللقاء الفريد، يلتقي الحبيبان وجهًا لوجه للمرة الأولى، لا عبر تبادل الأجساد، بل في لحظة عابرة يُطلق عليها في التقاليد اليابانية اسم "تاسوكاري"؛ وهي تعني «الشفق»، الزمن الواقع بين الليل والنهار، حين تتلاشى الحدود بين العوالم ويصبح لقاء الأرواح، بل وحتى غير البشر، أمرًا ممكنًا.
يتعاتب المحبان على المصاعب التي سبّبها كل منهما للآخر، ثم يسارع تاكي إلى إيصال تحذيره. يتفقان على كتابة اسميهما على أيدي بعضهما البعض حتى لا ينسى أحدهما الآخر. يكتب تاكي على يدها «أحبك» بدلًا من اسمه، وينتهي وقت الغسق قبل أن تتمكن ميتسوها من كتابة اسمها على يده مما يعني أنهما لن يتذكرا أسماء بعضهما البعض بعد أن تنتهي هذه الرحلة.
وفي خضم هذه الأحداث، يكتشف تاكي-كن أن ميتسوها كانت قد جاءت بالفعل إلى طوكيو بحثًا عنه، وأنها التقته ذات يوم في القطار. لكنها كانت الوحيدة التي تعرفه، بينما لم يتعرف هو عليها، إذ لم يكن تبادل الأجساد قد بدأ بعد في زمنه. تصاب ميتسوها بخيبة أمل كبيرة وتنزل من القطار، يائسًة ومحبطة من نتيجة رحلتها، وفي اللحظة التي تهمّ فيها بالمغادرة، يسألها تاكي-كن عن اسمها، لكن وسط الزحام لم يتمكن من سماع الإجابة، ويتحرك القطار. ومع ذلك، تلقي إليه بمَنسوجة صغيرة من نسيج موسبي، كانت قد صنعتها بيديها، ويحتفظ بها هو منذ ذلك الحين في معصمه كتميمة، دون أن يعرف حتى تلك اللحظة من التي أهَدَته إياها. ويتمكن لاحقًا من إرجاع هذه المنسوجة لها في لحظة لقائهما الخاطفة خلال وقت «الشفق»، حين يتلاشى الحد الفاصل بين عالميهما.
تتلاشى هذه الأحداث من ذاكرة البطلان لكن يظل كل واحد منهم يطارده شعور «أنه يبحث عن شيء ما»، والشعور بالرغبة الملحة في البكاء «حين أستيقظ في الصباح، أجد نفسي باكية لسبب ما». دون معرفة الأسباب هذا البكاء.
يتابع تاكي- كن رسم تلك القرية التي ضر بها النيزك،ونجا سكانها بمعجزة من الإبادة بسبب أن عمدة القرية (والد ميتسوها) الذي قرر إبعاد الناس عن موقع ارتطام النيزك إلى مكان آمن، بعد نجاح ابنته في إقناعه بكلامها الذي بدا له غير منطقي، خاصة وأن كل الأخبار تقول إن المذنب لن ينشطر، وسيمضي بسلام دون أن يتسبب في أي كارثة.
تمضي خمس سنوات أخرى، ويتخرج البطلان من الجامعة يطاردهما الشعور بأنهما يبحثان عن شيء ما، إلى أن يتقاطع القطاران اللذان يحملانهما، ويرى تاكي- كن فتاة تربط شعرها بنسيج موسبي، ينزل في محطة القطار ويجري في الأنحاء باحثًا عنها في كل مكان، وهي تفعل كذلك إلى أن يتلقيا على أحد السلالم، وهو صاعد، وهي هابطة، تلتقي العينان، يمران بالقرب من بعضها البعض دون أي كلام إلى أن يكادا يختفيا عن نظر بعضيهما البعض، يتوقف تاكي- كن ويسألها «هل التقينا من قبل؟» لترد عليه ميتسوها والدموع في عينيها أشعر بذلك أيضًا، وينتهي الفيلم بهذا المشهد الذي استطاع فيه اثنان أن يتغلبا على ما فعله زيوس ويصبحا جسدًا واحدًا مرة أخرى.
بهذه النهاية ينتصر الفيلم للحب القادر على اختراق حواجز الزمان والمكان، والقادر أيضًا على تغيير المصير وإنقاذ قرية من الإبادة، ويكشف لنا الفيلم كيف يمكن إعادة استثمار الأساطير القديمةفي الفنون الحديثة، لتروى قصصًا تحاكي جوهر التجربة الإنسانية في أكثر صورها صدقًا وجمالًا.
---------------------------
د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية
«اسمك» قصيدة تخترق نسيج الزمكان وتعيد إحياء الأساطير