عزف الفيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» إخراج خالد منصور على وتر شديد العذوبة والندرة في السينما العربية، وتر الصعلكة والحياة المرتجلة من ألفها إلى يائها. بطل منذ البداية موسوم بالخسارات كأنه يُحيي ذكرى عنوان كتاب الألمانية يوديت شالانسكي «فهرس بعض الخسارات»، بطل خسر الحبيبة، فقد المأوى، غاب عنه الأب، ليس له أصدقاء من البشر، ونديمه الوحيد كلبه «رامبو» الذي يقاتل بكل ما تبقى من قوة ليحافظ على حياته؛ لأنه الأوفى والأنقى من جميع البشر كأنه يعيد سيرة الصعلوك الشنفرى حين اختار الصحراء بحيواناتها المفترسة بديلًا عن الأهل «هُمُ الرَهطُ لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ/ لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ».
هذه الصعلكة التقطتها الكاميرا في المشاهد الليلية لسير «حسن» على دراجته النارية بحثًا عن مخرج للسيد رامبو، في نومه على الأرصفة والبلاط، في النوم والاستحمام في المساجد، في الصراعات البدنية غير المتكافئة وسط غياب تام لسلطة القانون، في البيت المتقشف الذي يعيش فيه، في الاطلاع على عوالم تجارة الكلاب الخفية، وفي ارتجال حياة لا يحكمها تخطيط مسبق سوى ما تمليه معركة البقاء وإنقاذ رفيقه الأخير.
المشاهد الليلة كانت شديدة الفتنة والثراء لبطل مأزوم يحمل مأساته على دراجة وحده في شوارع خالية من الناس، يمضي فيها قلقًا وخوفًا وأملًا في إيجاد مخرج، مغامرة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لأناس عاديين أما حسن فحياته كلها كذلك، أقل ما فيها العيش في العراء وأكبر همه إنقاذ كلبه.
مأساة لا تُقدم في صورة تراجيديا مفجعة، وإنما في هيئة كوميديا سوداء، خالية من موسيقى تصويرية تستدر العطف أو الدموع. فأعظم الكوارث التي تعصف بالإنسان لا تختلف في هيئتها عن الملهاة، فتستدعي الضحك أكثر من البكاء، عبر عن هذه الظاهرة النفسية العجيبة قول القائل «شر البلية ما يضحك».
يبدأ الفيلم بأزمة واقعية، تتمثل في إصرار صاحب السكن «كارم» على طرد الأم والابن وكلبهما رامبو من المسكن لتوسيع ورشته. في لحظة يخيل إليك أن الحكاية ستنحصر في صراع بين الأسرة والمالك المتجبر، لكن سرعان ما يتراجع هذا الخط إلى الهامش، ليصبح الهم الأكبر لـ«حسن» هو إنقاذ رامبو من بطش المالك الذي يصر على تسليم الكلب له وقتله؛ لأنه عضه في مكان حساس، إثر صراع نشب بين المالك وحسن فتدخل الكلب دفاعًا عن صاحبه وفعل فعلته.
يغيب في هذا المشهد حضور القانون، لتحل محله جلسة صلح عُرفية، تنتهي بالحكم بقتل الكلب. أما نية كارم في طرد العائلة من مسكنها الوحيد، فلا تكون موضع نقاش أو مراجعة في تلك الجلسة سوى بشكل هامشي، بهذه الطريقة يعالج الفيلم جملة من القضايا الخطيرة التي تنخر في المجتمع المصري يكتفي بالإشارة واللمحة الذكية لهذه المشاكل، يكتفي بالوصف عن التعليق ويترك الحكم للمشاهد الذكي لتفسير ما يجري أمامه.
بنعومة ينتقل الفيلم إلى أزمة أخرى: خسارة حسن لحبه. في لحظة انكساره لا يجد سوى حبيبته ملجأ، يبارك لها خطوبتها بعد أن يرى ختام الخطوبة، يسألها أن تساعده، لا يوجه لها حسن أي لوم أو عتاب على تركها له، فالحياة أقوى من المشاعر الرومانسية، فما في القلب يظل في القلب، والواقع القاسي له القول الفصل وهو من يتحكم ويحدد مسارات البشر.
يكشف الفيلم بشكل مكثف دون عويل وصراخ عن علاقة أجهضتها الظروف الاقتصادية قبل كل شيء، حسن يعمل حارسًا في شركة خاصة بدخل محدود وعمل يستنزف نصف يومه، أما هي فتعمل في مطعم وتعيش في سكن بنات جماعي. أمام هذا الوضع يصبح الزواج من رجل مناسب هو الحل، حتى لو كان يكبرها بعقود ولديه ابن من زيجة سابقة.
وفي خضم هذه العلاقة المجهضة نكتشف شرخًا آخر في روح حسن، الأب الحنون الذي أحبه لكنه هرب فجأة وتركه مع أمه وهو في العاشرة، يحكي حسن، فتستعجب «أسماء» لأنه لأول مرة يحكي عن نفسه، لنكتشف بعدًا آخر من أبعاد حسن الكتومة، التي لا تبوح عما يعتمل بداخلها بسهولة فهذا الهدوء الظاهري على الوجه براكين متفجرة ويجاهد حسن على كبتها فيبدو كأنه لا شيء يؤثر فيه، وقد جسد هذه الحالة عصام عمر ببراعة وصدق.
تطرح أسماء عليه أسئلة كمفتاح ليبوح بمشاعره نحوها، فتأتي إجاباته مقتضبة ومخيبة لآمالها، فمن داست عليه الخسارات، لا يريد أن يُعلق نفسه بأمل كاذب أو يعلقها به، وهو يعلم تمامًا أنه لن يتحقق. فالبوح بالأحزان في تلك الحالة أسهل من بوحه بأحلامه، أسئلتها التي طرحتها ليصرح بحبه يتعمد إجهاضها في مهدها، أم سؤالها عن أسوأ شيء مر به في يومه، تأتي إجابته وافية حول زيارته لعمه؛ لأنه ذكره بوالده، لا لأنه خذله ولم يقف معه في وجه المالك الذي يريد أن يطردهم من البيت، أو عرضه الذي يشبه «عزومة المراكبية» بالمساعدة المالية، هذا اللقاء المخيب الذي جمعه بالعم يستعيده حسن دون غضب أو ضيق، ولم يزد رد فعله على موقف عمه المتخاذل، سوى أن أعاد له السيجارة التي عزم عليه بها، ويغادر المكان.
وسط هذه الخيبات التي تذكرنا ببيت شيخ الشعراء المتنبي "بم التعَللُ لا أهلٌ ولا وطنُ ولا نديم وَلا كأس ولا سَكَنُ" نجد كل ما يهم البطل هو إنقاذ الكلب من الموت، يخوض رحلة ومغامرات تتكشف فيها عوالم لا نعرف عنها شيئًا عن عالم مسابقات الكلاب ومزارعها وذبحها وبيعها. وتستغرق رحلة البحث عن منفذ لنجاة رامبو معظم أحداث الفيلم، تتحول من عقدة هامشية (فمن الطبيعي ربما أن تكون كذلك إذا كانت المقارنة بين كلب وبيت) إلى العقدة الرئيسة، ويتراجع مصير البيت وأزمة الطرد إلى الخلفية. وهنا تظهر صورة أخرى عن حسن المسالم، إلى حسن شرس مستعد أن يضحي بحياته من أجل إنقاذ الكلب، يترك أمه تواجه كارم الفظ بمفردها الذي اتخذ من عض الكلب ذريعة إضافية تضفي شرعية على مطلبه بطردهم، وفيما يجعل حسن كل همه إنقاذ رامبو.
وفي النهاية يفرض الواقع كلمته كما ضحى حسن بحبيبته لمن سيوفر لها حياة كريمة، يضحي برامبو ويقبل بالحل الذي أتت به أسماء عبر خطيبها، بتسليم الكلب لأسرة مصرية ثرية تعيش في كندا، يسألهم هو يسلمهم الكلب أن يسمحوا له بزيارته، فيجيبونه أنهم لا يأتون إلى مصر سوى أسبوع واحدة في العام، يعوي الكلب عواء حزينًا ويمضي حسن تاركًا خلفه الحبيبة وخطيبها والكلب ومكانًا فارهًا لا يناسبه. يودع حسن كلبه يخبره أنه سيحظى هناك بحياة أفضل، طعام وافر، مساحات خضراء، ألعاب. وحده ما سيغيب عنه هو دفء مشاعر حسن.
بعدما اطمأن حسن على مصير رامبو وأنه ضمن مصيرًا أفضل من مصير صاحبه يعود إلى الحارة لينتقم، يعلن عن ثورته ولكنها ثورة محكوم عليها بالفشل منذ البداية، يحرق سيارة المالك، ويخوض صراعًا بدنيًا عنيفًا معه، ثم يغادر الحارة لينتهي الفيلم وهو يجلس مع أمه في العراء على جبل المقطم وجهه مثخن بالكدمات، ينظر إلى القاهرة من أعلى، يستمع إلى صوت أبيه وهو يغني أغنية لمحمد منير كلمات عبدالرحيم منصور «أنا مطحون والدنيا دي رحاية، وكل شيء بيتسرق مني الضي والأيام» لتكون الأغنية بصوت منير هي تتر النهاية للفيلم، التي تعبر عن روح الفيلم تمامًا عن بطل خسر البيت، الأب، الحبيبة، والصديق الوفي، عمله.
للبحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج خالد منصور، وشاركه في التأليف الكاتب والسيناريست محمد الحسيني. الفيلم بطولة عصام عمر (حسن)، ركين سعد (أسماء)، أحمد بهاء (كارم، صاحب المنزل)،سما إبراهيم (ألطاف، والدة حسن) وضيوف الشرف يسرا اللوزي، بسمة، هاجر حاتم، حسن العدل، أحمد السلكاوي، خالد جواد.