كنت ألتقي بصنع الله إبراهيم خطفا وبصورة عابرة في الستينيات، في ندوة أو تجمع أدبي، وكان يترك لدي دائما انطباعا راسخا أنه يصون قشرة التواصل مع الآخرين بهزات صامتة من رأسه، لكنه في واقع الأمر مازال حبيس الزنزانة البعيدة التي طوته عند اعتقاله مع الشيوعيين عام 1959وهو في الثانية والعشرين من عمره. لاحقا حصل صنع الله على منحة لدراسة السينما في موسكو، فصرنا نلتقي أكثر فيترسخ لدي الشعور أنه سجين، وأن كل ما يقدمه من أدب متمرد مجرد محاولة عنيفة للخروج إلى الحرية بدءا من روايته " تلك الرائحة" عام 1966 التي صدم الجميع بها، وقد امتدحها يوسف إدريس وكتب عنها : " تلك الرائحة ليست مجرد قصة، لكنها ثورة، وأولها ثورة الفنان على نفسه، وهي بداية أصيلة وموهبة ناضجة"، بينما هاجمها يحيى حقي بقسوة في عموده الأسبوعي بجريدة المساء قائلا : " لازلت أتحسر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرا في الأوساط الأدبية وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلفها زل بحماق وانحطاط في الذوق.. وأنا لا أهاجم أخلاقيات القصة بل غلظة احساسها". وبقيت الرواية مثل صرخة فنان يحاول أن يحطم قضبان الزنزانة التي عاش فيها وأن يلفت الأنظار إلى قضية الحرية التي ظلت شاغله الأول. عام 1973 كان صنع الله يعمل في وكالة صحفية في برلين ثم قرر دراسة السينما في موسكو، فصرنا نلتقي كثيرا، فيترك لدي وهو يتكلم نفس الانطباع بأنه مازال محبوسا في زمن مضى وأنه يمثل أنه حر لكن من دون اقتناع. وذات يوم كلمني وطلب مني أنا وصديقي حسام حبشي أن نساعده في الانتهاء من الفيلم الذي كتبه مشروعا للتخرج من المعهد مع المخرج السوري محمد ملص. كان على حسام أن يقوم بتمثيل دور سجين في زنزانة، أما أنا فقد طلب مني أن أسجل مقاطع صوتية من حديث لمحمد علي عامر الشيوعي الشهير بلقب شيخ العرب. وقد قمنا بذلك وخرج الفيلم إلى النور ولا أدري لماذا لم يضم إلى قائمة أعماله التي بلغت نحو ستة عشر كتابا، وعاد صنع الله إلى مصر ليصدم الجميع مرة أخرى برفضه العنيف لجائزة ملتقي الرواية في أكتوبر عام 2003 بحضور فاروق حسني وزير الثقافة. وجاء في أسباب رفضه الجائزة علنا من على منصة المسرح أنها : " صادرة من حكومة تفقد مصداقية منحها، إذ لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات، ولم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، وقد تفشى الفساد ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب". وأعاد صنع الله الذاكرة صور الأدباء والمفكرين الكبار، عندما ارتفع صوت عباس العقاد تحت قبة البرلمان يحذر الملك فؤاد بقوله : " إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور"، وكلفته صيحته الشجاعة هذه تسعة أشهر من السجن بتهمة العيب في الذات الملكية، وعندما استقال أحمد لطفي السيد عام 1932 دفاعا عن استقلال الجامعة، وعندما رفض جان بول سارتر جائزة نوبل في الأدب عام 1964، وعندما رفض الكاتب الروسي سولجينتسين أرفع وسام في ١٩٩٤ قدمه إليه الرئيس يلتسين وجاء في اعتذاره قوله: " لا أستطيع أن أقبل وساما أو تقديرا من سلطة قادت روسيا إلى الكارثة". وفي حينه أعاد صنع الله مع أولئك التأكيد على ضرورة أن تكون الكرامة شعورا مألوفا في حياتنا. كانت حياة صنع الله وأدبه احتجاجا مستمرا، ومحاولة للخروج إلى الحرية، ومحاولة للشعور بالسعادة وهو الذي عاش حياة متقشفة خلت من كل متعة أو فرح أو مغنم. الان شد صنع الله رحاله إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وكل من أخلص للكلمة الصادقة، تاركا لنا حياته وأدبه والحزن الغامر على فراقه.
-----------------------------
بقلم: أحمد الخميسي
* نقلا عن صحيفة الدستور
زنزانة صنع الله إبراهيم
