حين سألت صاحبى عن صوت الهدَّة وصوت النهقة المنكرتين اللتين أزعجتانا من الظهيرة أجابنى: هذا هو العم سُمعة، عربجى من الصبح إلى الظهر عند بعض جيراننا من التجار، وهو من بعد المغرب إلى نصف الليل سايس عند بعض قاعات الأعراس خلفنا، فهو لا يفارقنا أكثر يومنا، فإن غاب هو لقيلولته أو غدائه أناب عنه حماره فينا، ذلك أن العم سُمعة كان إذا انقضى عمله مع التجار أَبَى إلا أن يقيل حماره وعربته بجدار بيتنا، فكان إذا صَفَّ العربة ألصقها وإن شئت فقل صدمها صدمًا بالجدار فتسمع له هذه الهدَّة، ولقد شهدت صاحبى هذا يحدثه غير مرة مُنكِرًا عليه هذا الخراب الذى ينال به الجدار كل يوم حتى انكشط بعضه، وتحفر بعضه، فيجيبه سُمعة بأنه قد استجاب له فجعل بين عربته وبين الجدار شبرًا! أو يقول له: (حاااضر، عينى)، ثم فلا يتبدل شىء، فالعم سُمعة مقيم على أذى صاحبنا، وصاحبنا مقيم على احتمال الأذى وكظم الغيظ! فكانت هذه هدَّة القيلولة التى سمعتها، أما نهقة الظهيرة بشباك الدار، فذلك أن الرجل كان رحيمًا بحماره، فلست تكاد تراه يرفع عليه سوطًا كسائر العربجية، وكان لا يناديه إلا تدليلًا فيدعوه (عسلية)، فإذا ناله بمسبة أو بدعاء عليه كانت مسبته أو دعاؤه كدعوة الأم الرؤوم على ابنها (تدعو عليه، وتكره اللى يقول آمين)، وكان من رحمته به أنه إذا نزل الشتاء، واشتد برده جلّل ظهر حماره بغطاء يقيه مَسَّ البرد، وإذا حضر الصيف، وارتفعت الشمس، واشتد الحر التمس له ظلًّا باردًا يقيه لفح الهجير، ولم يكن ظل أبرد من ظل جدار صاحبنا يفىء عليه، فهو يربطه عند شُباكه وقت الهجير، فكان هذا النهيق الذى فرش الدار، وأزعج الأضياف!
ولكأنى بالعم سُمعة لطول عشرته الحمير قد أصابه من بعض خصالها، هذا إذا زعمنا أن للحمير خصالًا، وإذا انتحلت لنفسى العلم بخصالها، فالرجل كان مثل حماره جهير الصوت، لا يدخل الحى إلا سمعته صائحًا، أو مناديًا، أو مجيبًا، ولعله كان أشد منه عنادًا، فالرجل لم يكن يستجيب بالوحى الخَفِىِّ، ولا بالجهر الجلِىِّ، وليس يثنيه عن أذاه قول ليِّن، ولا خلق هيِّن، بل لا يستجيب إلا بالصياح والإنكار الشديد، وحتى يأخذ سوط التهديد والوعيد من أذنه! وأنا أزعم أنه إن كانت الوقاحة من أخلاق الحمير، فالعم سُمعة كان أشد من (عسلية) جرأةً ووقاحةً فيما ليس له بحق، فإنه كما أسلفت لك.. (يُتبع).
-------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]