عندما جلس مندوبو حركة طالبان في مدينة الدوحة القطرية للتفاوض مع الوفد الأمريكي من أجل التوصل إلى سلام بين الطرفين في أفغانستان طلب الوفد الأمريكي بحسم من ممثلي طالبان نزع سلاح الحركة بالكامل فوراً كشرط نهائي لاستمرار المفاوضات. هنا ابتسم رئيس الوفد الأفغاني بسخرية وحك لحيته الكثيفة وقال للأمريكان (لن ننزع سلاحنا فلولا أننا نمتلك هذا السلاح ما جلستم معنا للتفاوض على هذه الطاولة). وهذا كلام حقيقي لأن حركة طالبان حتى تلك اللحظة كانت حركة إرهابية يحظر على جميع الدول التعامل معها وفق القرارات الأمريكية الراسخة، وكان من غير المعقول تصديق أن أمريكا العظمى يمكن أن تتفاوض مع حركة قيل عنها بأنها منظمة إرهابية.
ولأن مفهوم الإرهاب مطاط مثل غشاء بكارة السياسة الأمريكية البرغماتية فقد أصبحت طالبان فجأة حركة سلمية تنشد التسامح والتعايش السلمي، ولذلك كان ممكناً لممثلي بلاد العم سام الجلوس مع ذوي اللحى واحتساء القهوة والشاي وربما تدخين الحشيش الأفغاني الشهير معهم. في نهاية المطاف لم تنزع الحركة سلاحها وانتهى الأمر بخروج مذل لقوات الكاوبوي من أفغانستان واستولت طالبان على كمية كبيرة من عتاد الجيش الأمريكي المنسحب. إذن امتلاك السلاح ضرورة استراتيجية لحماية الأوطان مهما كانت نوعية هذا السلاح في زمن انتهت فيه صلاحية مجلس الأمن والأمم المتحدة وفي ظل عدم احترام المعاهدات والقوانين الدولية التي أبرمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي تمنع التوسع والاحتلال والاستعمار والاستيطان دون وجه حق.
واليوم عندما يتحدث المتطرفون الصهاينة مثل النتن وكاتس وبن حمير عن إسرائيل الكبرى، وعن توسيع حدود الكيان التي سوف تتوقف في المنطقة التي تستطيع الدبابات الإسرائيلية الوصول لها حسب قولهم، فهم لا يتحدثون من فراغ ولكن لأنهم يعرفون أن ثمة فجوة شاسعة بينهم وبين دول الجوار فيما يخص امتلاك الأسلحة الحديثة خاصة طائرات وقاذفات الجيل الخامس الشبحية، كما أنهم يمتلكون القبة الحديدية التي تتكون من عدة مستويات: نظام مقلاع داوود المضاد للصواريخ ونظام حيتس الصاروخي ونظام صواريخ أرو وبطاريات باترويت وبطاريات ثاد التي أرسلها الرئيس الصهيوني المخبول لهم في أواخر أيام حكمه السوداء. علاوة على ذلك يمتلك الكيان نظام استخباراتي معزز بتقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة ولا يعتمد الكيان على ما تنتجه مصانعه من دبابات ومدافع الخ. بل تُرسل له أحدث ما توصلت إليه تقنية صناعة السلاح في جميع الدول الغربية المتقدمة خاصة أمريكا وألمانيا وبريطانيا التي تزوده بالغواصات والصواريخ بعيدة المدى الخ. لذلك فالعاصفة قادمة لا محالة ودولة الكيان سوف تسعى بشتى الطرق لاستكمال حلم إنشاء إسرائيل (الشقيقة) الكبرى لتهيمن عسكرياً وسياسياً واقتصادياً على مقاليد الشرق الأوسط الجديد الذي يتم تغيير ملامحه حالياً حيث يتم تغيير حدود الدول وضم أجزاء منها للكيان.
بعد حرب السادس من أكتوبر أو حرب يوم الغفران عام 1973 قررت الدول الغربية جميعاً مساندة دولة الكيان وتزويدها بأحدث أنواع الأسلحة كماً وكيفاً، بحيث يستطيع الكيان مواجهة الدول العربية مجتمعة في آن معاً في أي حروب محتملة، كما عزز الكيان من قدراته العسكرية بعقد اتفاقات وشراكات دفاعية مع العديد من الدول ولا سيما الولايات المتحدة ولا ننسى أن إسرائيل (الشقيقة) الكبرى تمتلك أسلحة نووية فتاكة منذ زمن طويل. ورغم كل ذلك لم يستطع جيش الكيان -بعد تدمير غزة عن بكرة أبيها وتحويلها إلى كومة من الرماد- تحرير رهائنه بعد مرور عامين على القتال مع عدة فصائل يرتدي أفرادها الشباشب والصنادل ويتسلحون بأسلحة شبه بدائية. فشل جيش الكيان في تحرير الرهائن رغم القصف الجوي الهمجي للقطاع وأحزمة النيران التي لم تتوقف ورغم اجتياح القطاع عدة مرات بأحدث الدبابات وقوات وفرق وألوية النخبة وكان آخرها عملية (عربات جدعون) أو (عربات المعلم سعدون حرامي الحمير في قريتنا).
وهذا يثبت أن امتلاك السلاح بغض النظر عن نوعيته ومدى تطوره مهم لجميع الدول العربية في جميع الأوقات، خاصة بعدما كشف النتن عن نواياه لتوسيع حدود الكيان. بالأمس أعلن المتطرف الصهيوني أوكراني الأصل سموتريتش على الملأ أن الكيان سوف يسيطر على كامل الضفة الغربية بعد إطلاق مشروع استيطاني سكني ينهي فكرة إقامة أي دولة فلسطينية في المستقبل.
وعندما سأله أحد الصحفيين عن رأي النتن في هذه المسألة أكد للجميع أن النتن موافق على ضم كامل الضفة الغربية لإسرائيل بمباركة من الرئيس الأمريكي (أبو حنان). وبالأمس قرر الكيان فتح معبر يؤدي لطريق يمتد من الجولان المحتل إلى السويداء السورية معقل الدروز. ومن البديهي فهم أن هذا الطريق جزء من ممر داوود المزعوم الذي ينوي الكيان من خلاله الوصول عبر الأراضي السورية إلى منطقة الأكراد قرب نهر الفرات وآبار النفط.
لقد انتهى زمن الصهيونية العلمانية المتحررة وانتهى دور مؤسسي إسرائيل الليبراليين الذين كان يمكن التفاوض معهم وحل محلهم طائفة من المتشددين الذين يؤمنون بأن الرب قد منح الأرض المقدسة لشعب الله المختار وسخر لهم الشعوب الأخرى عبيداً لخدمتهم. لذلك لن يتوقف قادة الكيان في الوقت الراهن وجميعهم من المتطرفين عن السعي لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى. ولن يتركوا هذه الفرصة تمر دون تحقيق أطماعهم التوسعية في وقت لا رادع لهم إقليميًا أو عالميا خاصة بعد تدمير الجيش السوري وتخاذل تركيا في الدفاع عن الحكومة الجديدة في دمشق.
تاريخيا استغل الصهاينة جميع الفرص التي أتيحت لهم منذ نشوء فكرة إقامة دولتهم في نهاية القرن التاسع عشر واستطاعوا تحويل ورقة مكتوب فيها 3 سطور (وعد بلفور) إلى دولة تهيمن على الوطن (الذي كان عربياً) حسب كلمات الراحل صنع الله إبراهيم.
كان الصهاينة دائما يراهنون على الجواد الفائز فقد حارب الفيلق الصهيوني مع الحلفاء ضد ألمانيا في الحرب العالمية الأولى – بينما دعم مفتي القدس (الحاج محمد أمين الحسيني) هتلر- واستطاع الصهاينة مساومة بريطانيا على إصدار وعد بلفور في مقابل إقناع أمريكا بالدخول في الحرب مع الحلفاء من خلال ضغط اللوبي الصهيوني في الكونجرس الأمريكي وكذلك حارب الصهاينة مع بريطانيا وفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية ومنذ النصف الثاني في القرن الماضي سيطر الصهاينة على القرارات الجيوسياسية الأمريكية من خلال الابتزاز والرشاوى الانتخابية وجماعات الضغط في الكونجرس ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين تحالف الصهاينة مع التيارات المسيحية البروتستانتية المتشددة في أمريكا من أجل خدمة إسرائيل وتحقيق نبوءة أشعياء في إقامة إسرائيل الكبرى وإعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى تمهيدا لعودة المسيح وغير ذلك من الأساطير التلمودية والتوراتية التي يوظفها الكيان لخدمة أهدافه السياسية والاستعمارية المشبوهة.
تعتمد حكومة الكيان حالياً ليس فقط على مساندة الأمريكان عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً وقانونياً ولكن على الدعم غير المحدود من أنصار (أبو حنان) من الجماعات والتنظيمات المسيحية الصهيونية الإنجيلية المتطرفة والتي تنتشر بشكل سرطاني في الولايات الجنوبية الأمريكية وتمتد إلى أجزاء من منطقة الغرب الأمريكي الأوسط خاصة ولاية ميزوري فيما يسمى بولايات (الحزام الإنجيلي) ويتغلغل هذا (الحزام) في مناطق في الولايات المتحدة يهيمن عليها التيار البروتستانتي المتشدد والمناصر للصهيونية العالمية والذي يدعو علانية لإبادة الفلسطينيين وتطير الأرض المقدسة منهم تمهيداً لعودة المسيح.
يبلغ عدد المناصرين لهذا التيار في أمريكا أكثر من ستين مليوناً يؤمنون بخرافات وأساطير توراتية وتلمودية ومن بينهم قيادات ووزراء يسيطرون حالياً على مناصب هامة وفاعلة في حكومة الرئيس (أبو حنان) بالإضافة إلى معظم سفراء أمريكا في الشرق الأوسط والبلدان العربية وكذلك جميع المبعوثين الأمريكيين الذين يتوسطون في قضايا تخص الصراع العربي الإسرائيلي.... الخ.
في منطقة (الحزام الإنجيلي) يفرض البروتستانت الإنجيليون المتشددون نفوذًا سياسياً واقتصادياً واجتماعيًا وثقافيًا وإعلامياً قويًا. وقد وُصفت هذه المنطقة بأنها الأكثر تطرفاً وعدائية في الولايات المتحدة، نتيجة التأثير الكبير للمسيحية البروتستانتية الصهيونية على السياسة والثقافة والمجتمع بشكل عام. وتشتهر المنطقة بكثرة الطوائف البروتستانتية الإنجيلية المتطرفة مقارنةً بمناطق أخرى من البلاد. وتمثل هذه المنطقة تباينًا واضحًا مع تنوع الأديان في الغرب الأوسط ومنطقة البحيرات العظمى، ومع ما يُعرف بـ"الممر المورموني" حيث تجمعات طائفة المسيحيين المورمون (قديسو الأيام الأخيرة) في مناطق شمال وجنوب ولاية يوتا وجنوب ولاية أيداهو وشمال ولاية أريزونا. ويبلغ التأثير الإنجيلي المتطرف أقصاه في الولايات التي تضم أعلى نسبة من البروتستانت الإنجيليين مثل تنيسي وألاباما وجورجيا وميسيسبي وأركنساس وكنتاكي وفيرجينيا الغربية وأوكلاهوما، بالإضافة إلى مناطق شاسعة في شمال ولاية فلوريدا وجنوب ولاية ميزوري وغرب ولاية كارولاينا الشمالية وشمال ولاية كارولاينا الجنوبية وشمال ولاية لويزيانا وشمال وشرق ولاية تكساس وجنوب ولاية فيرجينيا والبقية تأتي .......لذلك حان الوقت للعالم العربي أن يستفيق من حالة الاستسلام والركود والتبعية والخنوع التي أطلق عليها الشاعر السوري علي أحمد سعيد (أدونيس) مسمى (السبات التاريخي العتيق).
طابت أوقاتكم
----------------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
أكاديمي وناقد | نياجرا-مقاطعة أونتاريو- كندا