لعلّ من المجالس التي أوشكت على الاندثار في أيامنا، مجالس الأدب التي كان يُتلى فيها الشعر بصورته الموروثة، كما عرفها أدباء القرن الماضي وشعراؤه، وهذه المجالس كانت مزيجًا من الطرب الروحي، والحسّ الفني، والذوق الرفيع، والبيان البديع. وقد عرفتُ أخبار هذا اللون النادر من المجالس من خلال أستاذين كبيرين، يُعدّان من أعلام هذا الفن وورّاثه المخلصين:
أما الأول، فهو أستاذي الأكبر الراوية محمد رجب البيومي (2011- 1923)، وكان راويةً للشعر، حافظًا للدواوين، لا أقول دواوين الأقدمين فحسب، بل كان الرجل يحفظ جملةً ضخمة من دواوين الشعراء المعاصرين، حتى إنه كان يستظهر "ديوان الخليل" لخليل مطران، و "ألحان الخلود" لزكي مبارك، وديوان عبد الرحمن شكري، ومعظم قصائد العقاد وغيرهم.
وقد عاب عليّ الأستاذ في أول لقاء في بيته المعمور بمدينة "المنصورة" قلة محفوظي من الشعر العربي، وكان يحبّ إنشاد الشعر كثيرًا، بل يتأثر تأثرًا بالغًا عند سماع بعض الأبيات، وربما بكى، وهذا التأثر لا يكون إلا من نفس شاعرة ذوّاقة، وهو كأساتذته يميل بالقصيدة إلى عربيتها الخالصة ذات البحر الواحد والقافية الواحدة، ويدعو إلى الإشراق والوضوح دون غموض في الرمز أو شطط في الخيال.
وكنتُ - على صعوبة ذلك - أحاول قدر الإمكان أن لا أفتح له هذا الباب، لأني إن فتحته لن يُغلق، ولَأنشد حتى يضيع عليّ وقت اللقاء، وتضيع معه أسئلتي عن التراجم والروايات التي أخذها عن الرواد الكبار من أدباء القرن الماضي ومفكريه، وهي التي كنت أحرص على أخذها منه وقتذاك، لما له من أسانيد ومشافهات مع جِلّة العلماء. وليتني ما فعلت، ليتني دوّنت عنه كل بيتٍ قاله، وكل كلمة خرجت من فيه المبارك.
وأما الثاني، فهو أستاذي الموسوعي السيد محمد عبد الرحيم بدر الدين التلاوي (1932 - 2016)، وهذا رجلٌ قد غُمِس في ماء الشعر غمسًا، حتى صار شعرًا ناطقًا! كلماته شعر، ضحكه شعر، غضبه شعر، نظرته شعر، وقصائده من الطراز الأول نصاعة بيان، وسلاسة تركيب، وطبع متناه في الصفاء، ومكانة في اللغة رفيعة، وتصرف في اللفظ سلس القياد، ولو أقسمتُ عند الكعبة أنه يستطيع أن يُجيب الناس كلهم بأبيات شعر دون أن ينطق نثرًا ما حنثت.
كان الرجل يحفظ شعر المتقدمين والمعاصرين، وله في كل رأي أو حادثة أو موقف قصائد، ويجيد القول في كل موضوع مهما تكررت مناسبته وتعددت ظروفه، فأنت تجد له إنتاجًا متعددًا في موضوع واحد كالمولد النبوي الشريف؛ إذ لا يكاد يمر عام دون أن يتذكر هذا اليوم الشريف فيفيض خاطره بإلهام رفيع، وقل مثل ذلك في المواسم الدينية الأخرى؛ كالإسراء والمعراج، والهجرة النبوية. بل كان ينظم العلوم كما ينظم مشاعره، وأذكر أني رغبت يومًا أن أقرأ عليه متن "الآجرومية" لابن آجروم، فقال لي: "أنا سأملي عليك متنًا مثله، أتريده منثورًا أم منظومًا؟!"، ثم أملى عليّ منظومةً كاملةً في النحو، في جلسةٍ قصيرةٍ بين العصر والمغرب.
وفي جلسة مطوّلة بعد صلاة العشاء، امتدّت إلى ساعة متأخرة من الليل، أنشدنا من شعره ما لا يعلمه إلا الله، وقد عدَدت بنفسي ما يزيد على خمسمائة بيت، ثم توقفت عن العد! وبعد هذه الجلسة خرجت من بيته ونمت في الشارع ساعةً من شدة ما غمرني من الشعر، لم يحتمل جسدي كلّ هذا الجمال دفعة واحدة.
وللأسف، ضاعت كثير من تلك الكنوز، فما كنت إلا طالبًا صغيرًا، يصعب عليه أن يقيّد كل هذه الأبيات، ولم تكن وسائل التوثيق متوفرة. وكان اهتمامي متجهًا أكثر نحو دراسة المتون، والقراءة في مبادئ العلوم، ولم أكن أدرك أن بين أيدينا من الشعر ما يستحق أن يُحفظ كما تُحفظ الدروس، بل أكثر.
وكم غفلنا عن ذخائر لا تُقدّر بثمن، تحت وطأة الانشغال، أو غفلة التقدير، أو قِصر النظر.
ومما ينبغي أن يُقال هنا، هو أنني اكتشفت أخيرًا سرّ اهتمام أستاذي محمد رجب البيومي العميق بالشعر العربي؛ فقد تتلمذ على يد أستاذه الكبير، راوية الشعر العربي، العلامة أحمد شفيع السيد. ذلك اللقاء التربوي كان له بالغ الأثر في تكوينه الثقافي، فكان في ذلك تجسيدًا لرباط مشترك بين جيلين من العلماء، حيث يتوارث التلاميذ شغف أساتذتهم وتوجهاتهم، مما يعكس عمق العلاقة بين العلم والإبداع في بيئة الأزهر الشريف، وقد وصفه أستاذنا بأنه مع شاعريته الأصيلة راوية، قوي الحافظة، واسع المحفوظ من تراث الأوائل، فإذا أتاه أستاذنا البيومي أو غيره من الطلبة يعرض عليه بعض آثاره استمع إليه، ثم اتجه إلى مناقشته فيما يحفظ ويروي للشعراء.
أما بالنسبة لأستاذي السيد محمد عبد الرحيم التلاوي، فما زلت أبحث عن تفسيرٍ لهذا الاهتمام الاستثنائي بالشعر الذي ظهر فيه، ولم أتمكن حتى الآن من التوصل إلى سبب مباشر يقودني إلى تحديد ما إذا كان قد تأثر بشخصية أدبية أو ثقافية محددة في مسيرته. نعم، إن تكوينهما الأزهري لا شك أنه أحد العوامل التي تفسر تعلقهما بالشعر العربي، ولكن هذا لا يعد تفسيرًا كافيًا؛ فقد صادفتُ العديد من الأزهريين في نفس الفترة الزمنية، والذين لم يكن لهم أي شغف بالشعر أو ارتباط وثيق به.
وهنا تبرز فكرة مثيرة؛ ربما يكون هناك تأثيرات خارجية عن الدراسة التقليدية للأزهر، ربما يكون محمد عبد الرحيم التلاوي قد تأثر بتجارب حياتية معينة أو بيئات ثقافية محيطة جعلته ينقلب نحو الشعر ويصبح جزءًا لا يتجزأ من شخصيته. أما بالنسبة للبيومي، فإن تأثره بأستاذه أحمد شفيع السيد يبدو أكثر وضوحًا؛ فقد كان بمثابة جسرٍ نقل له محبة الشعر وإدراكه العميق لأبعاده الفنية والجمالية.
لكن يبقى السؤال: لماذا لا نجد هذا الشغف نفسه لدى كل من تخرج من المدرسة الأزهرية؟ هل كانت هناك عناصر خفية في حياة البيومي والتلاوي أضاءت أمامهم طريق الشعر، في حين بقي آخرون بعيدين عنه؟ هذا اللغز لم أتمكن من فهمه حتى اللحظة.
-------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني
* كاتب وأديب مصري