17 - 08 - 2025

من حكايات العم شعبان .. ضِحكة في حَضرة المُحترَم !

من حكايات العم شعبان .. ضِحكة في حَضرة المُحترَم !

كثيرةٌ هي أعباءُ الحياة وضغوطها التي يشيبُ لها الولدان، وتضع بسببها كلُّ ذات حَملٍ حملها، وهو ما يَفرضُ علي المرء أن يُروح عن نفسه بين الحين والآخر بأيّ وسيلة تسلية؛ ليستعيد نشاطه، ويستأنف ممارسة مهامه.

من المحطات، التي اعتدتُ أن أولي وجهي شَطرها باعتبارها مُتنزها أو مشفى أُعالج فيه أسقامي، وأطرحُ علي عتباته همومي، حقلُ توأم طفولتي، ورفيق دربي أ. رشاد شعبان رشاد، والذي يُعدُّ تجسيدا حقيقيا لمعنى الإخوة والظرف، الذي ورثه عن كلٍّ من أبيه وعمه، رحمه الله .

والحقيقة أنّ رشاد نفسه لم يكن مقصودي في زيارات حقلهم على الدوام، بل كان والدُه هو المقصد الأسمي في زياراتي المتكررة لحقلهم في أقصى غرب القرية، حيث السماء الصافية، التي تغطي بساطا من السندس الأخضر، والأفق الواسع، بعيدا عن الضوضاء والجلبة .

ومُقدّم مُتقاعد شعبان رشاد والد صديقي، رجلٌ جَمعَ بين الأضداد، فبرغم انتمائه  للجندية المصرية، حيث الانضباط والحزم، الصرامة والعزم، الدقة والنظام، وهو ما تلمسه في كلّ قراراته مع أهله وجيرانه، إلا أنّه امتاز إلي جانب ذلك بظرف مُنقطع النظير، وخفةَ ظِلٍ تُجبرك علي الضحك بملء فيك، حتى وإن كنتَ وافدا إليه من تشييع جنازة عزيزٍ عليك، فبمجرد أن تراه، ويبادلُك أطراف الحديث حتي تفتر أسنانُك عن ابتسامة خفيفة، تنتهي بقهقهة وتصفيق تستلقي بسببهما على ظهرك.

في زيارة له ذات مرة، وجدتُه على غير عادته، مُستندا إلي جذع شجرة، وقد اتكأ بصدغه الأيمن علي كفه اليمني، وجلس كمن (كَبتْ عَجينها)، تكسو وجهه علاماتُ الحزن، فسألته: خير يا عم الحاج؟

هكذا أناديه، ويناديه أبناؤه وجيرانُه، فردّ بصوت مُحشرَج لا يكاد يبين: ليس لي حظٌ في الحِمير، أصيبتْ الحمارةُ الجديدة بـ(دمل) في حافر رِجلها الخلفية الأيمن، أعاق سيرها، وأصابها بالعرج، فصار مشيُها (حَنجلة)، وأعلن الطبيبُ البيطري عجزَه عن علاجها، فأجبتُه ضاحكا: مثلُك لا يليق به إلا فرس عربي أصيل، وليس حمارة عرجاء، انزوت علي مزودها، يحطُّ علي وجهها الذباب، فردّ مستنكرا: (ماشي يا خوي إيدي علي كتفك) !

والحق أنّ حزنه كان في محله؛ لأنها ثالثُ حمارة يشتريها ليحمل عليها متاعه، ويقضي بها مصالح الحقل، ولا يحالفه التوفيق !

الأولي كانت سوداء اللون، عَمّرت معه عدة سنوات حتى أصابها الكِبرُ، وصارت تمشي الهوينى، دون أن يُفلحَ معها وخزٌ ولا ضرب، لسان حالها في الطريق: ( لاموني اللي غاروا مني)، وكان نتيجة ذلك أنّ رحلة عودته من الحقل مساء كلّ يوم، والتي لا تستغرق دقائق، كان يقطعها بسبب هذه الحمارة اللعينة في ساعة أو يزيد، وهو خلفها فوق (العربة الصاج) التي تجرها، يعض الأنامل من الغيظ، ويُكثر لها الشتم واللعن .

وذاتَ مساء، بعدما بلغت روحه الحلقوم من بطء تلك الحمارة، أقسم أيمانا مُغلّظة ألا يمتطيها في رحلة، ولا يقودها في طريق، فكان له ما أراد، وجيء له بحمارة بيضاء، ضخمة الجسم، أشبه ببغل أسترالي، فظنّ ـ وبعض الظن إثم ـ أنها ستقضي مصالح الحقل في سرعة (الرهوان)، فإذا بها حمارة بليدة عنيدة، لا تجيد إلا تناول الطعام، كما لو كانت عِجلا يُسمّن، يصدق عليها المثل: (أكل ومرعى وقلة صنعة)، فصار موتُها أحبَّ إلي قلبه من بقائها، ويبدو أنّ المقدم شعبان مكشوف عنه الحجاب، فقد انتفخ في بطن تلك الحمارة عرقٌ، يحتاج إلي تدخل جراحي، فتركها حبيسة في حظيرة البيت، تنتظر الموت، ولكنه غاب .

علم بخبره تاجر حمير، فوعده بأنّه سيُهديه حمارة عفيّة بنت حصان؛ شريطة أن ( يشخلل ) جيوبه .

وصدق الرجل، وجاء له بحمارة سوداء، ممتدة الظهر ،طويلة الأرجل، مُكتنزة الرقبة والمؤخرة، تقوى علي أعمال الحقل دون أن تكلّ، فما إن تفكّ قيدها حتى تنطلق تسابق الريح .

لم تقوَ شيخوخةُ الرجل على رعونة تلك الحمارة، وفي إحدى محاولات اعتلائه ظهرها بمفرده سقط على الأرض، فأصدر فرمانا، استعاد به أيام مجده العسكري، بأن يصطفَّ أمامها عند رغبته في امتطائها عصبةٌ من الرجال لكبح جماحها، فكان له ما أراد، وظلت الحال كذلك، حتي أصابها ما أصابها، وهو ما عكّر مزاج الرجل، وأكد بسببه أنه ليس له حظٌ في الحمير .

حكايات عم شعبان لا تنتهي، وطرائفه ترسم الفرحة على الوجوه، وتطرد الحزن من القلوب .. وربما كان لبعض مناقبه في الجندية حديث آخر ، وحكاية أخرى من حكايات العم شعبان.    
-------------------------------
بقلم: صبري الموجي
ـ مدير تحرير الأهرام



مقالات اخرى للكاتب

من حكايات العم شعبان .. ضِحكة في حَضرة المُحترَم !