17 - 08 - 2025

من "ساكسونيا" إلى مصر.. كيف تُصنع العَدالة؟

من

في الخطاب المصري والعربي، كثيرًا ما يُستَخدم مصطلح "قانون ساكسونيا" لوصف العدالة الانتقائية، حيث يُطبَّق القانون على الضعفاء بينما يُستثنى الأقوياء، حتى صار تعبيرًا ساخرًا عن غياب المساواة أمام القانون. أصل هذا الاستخدام يعود إلى حكايات أوروبية قديمة عن قوانين تُكتب للجميع لكنها تُطبَّق على فئة دون أخرى. ومع الوقت، ترسخ في ثقافتنا المعنى السلبي للمصطلح، بعيدًا عن الواقع.

لكن الحقيقة الآن مغايرة تمامًا: "ساكسونيا" ولاية ألمانية شرقية، عاصمتها دريسدن، وهي واحدة من أنقى النماذج لما يُعرف في الفقه الدستوري الألماني بـ"دولة القانون"  هناك، كما في باقي الولايات الألمانية، تُقيَّد السلطة بالقوانين، وتُصان الحقوق الأساسية، ويُحترم مبدأ الفصل بين السلطات.

الجذور التاريخية لـ"دولة القانون" في ألمانيا تعود إلى القرن التاسع عشر، حين بدأت الولايات تحد من سلطات الملوك بنصوص مكتوبة ومحاكم مستقلة. وبعد الحرب العالمية الثانية، رسّخ الدستور الألماني هذه المبادئ، مانحًا القضاء استقلالًا كاملًا، وضامنًا ألا تطغى السلطة التنفيذية على حقوق الأفراد.

أما في مصر، فالتاريخ يسير بإيقاع مختلف. فمنذ العصور الفرعونية وحتى الدولة الحديثة، ظل الحكم شديد المركزية. ورغم أن مصر عرفت أول دستور عام 1923م، فإن النصوص غالبًا ما بقيت أضعف من الممارسة السياسية. الأحداث الكبرى — من ثورة يوليو 1952م، مرورًا بثورة يناير 2011م، وصولًا إلى أحداث 2013م — لم تتمخض بعد عن استقرار مؤسسي يضمن أن القانون فوق الجميع بلا استثناء.

المؤسسات القضائية المصرية عريقة، لكنها تعمل وسط بيئة سياسية واجتماعية متشابكة، حيث تميل كفة السلطة التنفيذية إلى الغلبة. بينما يرى المواطن في ساكسونيا القضاء الطريق الطبيعي لحل النزاعات، كثير من المصريين يلجؤون للحلول العرفية أو وساطة الوجهاء، أحيانًا بسبب بطء التقاضي، وأحيانًا لانخفاض الثقة في أن القانون سينصفهم.

الفرق الجوهري ليس في وجود القوانين أو غيابها — فمصر تمتلك ترسانة تشريعية واسعة — بل في العلاقة بين النصوص والوعي العام. في ساكسونيا، القانون ممارسة يومية متجذرة في ضمير المجتمع، لا حبر على ورق. المسؤول العام هناك قد يستقيل لمجرد خطأ إداري، التزامًا بمبدأ المساءلة، بينما في مصر قد تتعثر محاسبة المسؤول أمام حسابات السياسة أو ضرورات المجتمع أو الاقتصاد.

التجربة الألمانية، وبالأخص في ساكسونيا، تكشف مفارقة لافتة: المصطلح الذي صار في مصر والعالم العربي رمزًا للظلم والانتقائية، هو في الحقيقة اسمٌ لمنطقة تُجسد العدل والمساواة أمام القانون. والدرس الأهم أن الانتقال من المركزية الصارمة إلى دولة القانون ممكن، إذا آمن المجتمع بأن سلطة القانون أسمى من قانون السلطة، وجعل العدالة ممارسة يومية لا شعارًا دستوريًا.

قد يحمل الاسم في ثقافتنا ظلًا للظلم، لكنه في موطنه الأصلي يشرق كرمز للعدل. بين "قانون ساكسونيا" الذي نتهكم به، و"ساكسونيا" التي تعيشه، تمتد مسافة لا تقاس بالكيلومترات، بل بعمق الإيمان بأن القانون لا يعرف وجوهًا ولا ألقابًا، وإنما يعرف الحق وحده. وعندما يصدق المجتمع مع قانونه، يصبح القانون صديقًا وفيًا يحميه، لا سوطًا يجلده.

ختامًا، يبدو الطريق بعيدًا، لكن الأمثلة حولنا تقول إن المجتمعات التي تحمي قانونها، يحميها القانون بدوره. وحين تصبح العدالة عادة يومية، لا بندًا في الدستور، تتحول الدولة من سلطة تُخضع الناس إلى نظام يخدمهم.
---------------------------
بقلم: إبراهيم خالد


مقالات اخرى للكاتب

من