16 - 08 - 2025

دفاعا عن كرامة لبنان

دفاعا عن كرامة لبنان

قضية "حزب الله" ونزع سلاحه أكبر وأوسع من حدود لبنان الصغير المزدحم بتناقضاته الداخلية والتدخلات الحارجية فى شئونه ، وفى لقاء صاخب على العادة اللبنانية ، قدم الصحفى اللبنانى المناصر للمقاومة "فادى بودية" دفاعا لافتا ، وسأل تطبيق الذكاء الاصطناعى " شات جى بى تى " الأمريكى المنشأ عن تجارب  نزع سلاح حركات المقاومة فى التاريخ الإنسانى ، وعن أثر نزع سلاح "حزب الله" إن حدث ، ولم يكن جواب التطبيق الإلكترونى مفاجئا لأحد عارف ، ففى كل التجارب التاريخية ، كانت النتائج توحشا مضافا لقوة الاحتلال ، وفتحا لباب استكمال الإبادات الجماعية والتهجير والتطهير العرقى ، وفى حالة لبنان بالذات ، كان جواب "شات جى بى تى" صريحا قاطعا ، وخلاصته ببساطة ، أن لبنان سيعود فى حالة نزع سلاح المقاومة إلى ما قبل عام 2000 .

وبديهى أن جواب "شات جى بى تى" الآلى المحايد بطبعه لن يغلق باب الجدال المستعر فى لبنان ، فقضية "حزب الله" هى ذاتها قضية المقاومة فى "غزة" وفلسطين ، وما يراد بنزع سلاح حركات المقاومة ، هو إشهار الاستسلام لرغبات وأهداف كيان الاحتلال "الإسرائيلى" ونصيره الأمريكى ، ولا يسع أى عاقل صاحب ضمير حى ، إلا أن يرفع الصوت عاليا ضد نزع سلاح أى حركة مقاومة مادام الاحتلال باقيا ، وقد يقال لك أن لبنان دولة مستقلة معترف بها فى الجامعة العربية والأمم المتحدة ، وأن من شروط سلامة الدولة أن يكون لها جيش واحد ، وأن يحصر السلاح الشرعى فيه ، وهذا كلام صحيح بصفة عامة مجردة ، لاتتوافر شروطها فى حالة لبنان ، فاستقلال لبنان ناقص ، وخمس مواقع جنوبية فيه لا تزال محتلة من قبل العدوان "الإسرائيلى" شمال الخط الأزرق ، فما بالك بمواقع أخرى عديدة لا تزال "إسرائيل" تحتلها من زمن ، وتقع خارج خط الحدود المتفق عليه فى هدنة 1949 ، فلم يتوقف عدوان كيان الاحتلال أبدا على لبنان منذ إقامة هذه "الإسرائيل" ، ومن مجزرة "الحولة" عام 1949 إلى عدوان 1978 واجتياح لبنان عام 1982 ، ولم يدخل جيش لبنان الرسمى أبدا فى صدام مع جيش الاحتلال ، إلا فى أحوال موقوتة وبمبادرات فردية ، بل أن قسما من الجيش الرسمى جند طاقاته فى خدمة الاحتلال بلا حياء ، وكون ما عرف باسم "جيش لبنان الحر" من الرائد "سعد حداد" إلى العميد "أنطوان لحد" ، الذى سحبوه إلى داخل كيان الاحتلال بعد هزيمة العدو على يد مقاومة "حزب الله" ، وانسحابه من غالب الجنوب اللبنانى فى 25 مايو 2000 ، وظلت رواتب العملاء تصرف لسنوات طويلة من خزينة الدولة اللبنانية (!) .

وهذه المفارقات المخزية وأمثالها مفهومة فى الوضع اللبنانى الخاص جدا ، فالجيش اللبنانى كغيره من مؤسسات الدولة ، يجرى تكوينه وتجرى قيادته بحسب المحاصصات الطائفية المريضة ، وكل المناصب يجرى توزيعها بحساب طائفى من ميثاق 1943 إلى اتفاق الطائف بعد الحرب الأهلية الطويلة المريرة ، ويسرى التوزيع ذاته فى كل القطاعات بين 18 طائفة دينية كبرى وصغرى معترف بها ، ويجرى نقل الصورة المعتلة إلى داخل الجيش نفسه ، وكل طائفة ـ كبرى على الأقل ـ لها ارتباطاتها الثقافية والسياسية خارج لبنان ، إضافة لكون لبنان الهش

ساحة مفتوحة لعمل أجهزة المخابرات الخارجية من كل صنف ولون ، ومع تحول الوضع العربى عموما إلى حالة "التحلل الرمى" الراهنة ، لم يعد هناك من تأثير عربى إيجابى فى الوضع اللبنانى ، مثلما كان الأمر عليه زمن جمال عبد الناصر والحالة "الشهابية" فى لبنان ، وبعد رحيل عبد الناصر بسنوات قليلة ، دخل لبنان فى حرب أهلية دموية سقط فيها نحو 150 ألف قتيل ، وفى قلب زمن الحرب الأهلية ، كانت قطاعات من اليمين المسيحى توثق صلاتها بكيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، وهى ذات القطاعات التى تعاود نشاطها الآن فى خدمة "إسرائيل" ونصيرتها أمريكا ، وأضيفت إليها أصوات من الطائفة السنية المفتتة التمثيل السياسى ، مع إضافة تأثير خليجى منتفخ ماليا ، وخاضعا فى السياسة لرغبات وأهداف العدو "الإسرائيلى" الأمريكى ، وكل هؤلاء ـ مع غيرهم ـ كانوا وراء توريط الحكومة اللبنانية فى قرارات نزع سلاح "حزب الله" الشيعى المنشأ ، وشن حملة تكفير سياسى ودينى ضد الطائفة الشيعية التى تمثل ثلث سكان لبنان اليوم ، وبدعوى أن "حزب الله" إيرانى الولاء .

وكأن "حزب الله" حين حرر الجنوب اللبنانى كان يخدم إيران ، وكأن "حزب الله" حين دفع دم الآلاف المؤلفة من الشهداء فى معركة التحرير الطويلة الممتدة لنحو عشرين سنة ، أو فى حرب يوليو 2006 ، أو فى حرب الإسناد للمقاومة الفلسطينية فى "غزة" ، أو فى التصدى البطولى الإعجازى لعدوان الاحتلال الأخير فى حرب الستة والستين يوما ، التى أعطى فيها "حزب الله" خمسة آلاف شهيد على الأقل ، وراح ضحيتها عدد هائل من أبرز قادته ، وفى طليعتهم سيد الشهداء "حسن نصر الله" ، كأن كل هذه الدماء الزكية كانت تدفع لحساب إيران البعيدة ، التى خاضت مع "إسرائيل" حربها بنفسها ، ومن دون طلب عون من "حزب الله" ولا من حركات المقاومة الأخرى ، بينما ظلت إيران تدفع من مالها وسلاحها إلى "حزب الله" وغيره ، وهو ما كان يعترف به السيد "حسن نصر الله" علنا ودونما مواربة ، فلم تقدم أى دولة عربية فلسا ولا طلقة رصاص لأى حركة مقاومة عربية فى العقود الخمس الأخيرة ، وكان أولى بالدول العربية أن تفعل لو كانت عربية السياسة حقا ، لكن الأحوال على ما نعرف من هوان ما بعده هوان ، وكأن تهمة "حزب الله" أنه يقاوم بما يصل إلى يده وعقله وقلبه من سلاح وإيمان ، ومن حق "حزب الله" ردا للعدوان على سلاحه ومواريث شهدائه العظام ، أن يرفض نزع سلاحه وتوريط الجيش اللبنانى فى الخطيئة الكبرى ، ولو حدث شئ من ذلك لا قدر الله ، فلا أحد يضمن الحد الأدنى من سلام واستقرار لبنان الداخلى ، ولا أحد يضمن ألا يتمزق الجيش من داخله ، ولا أحد يضمن ألا يذهب لبنان إلى حرب أهلية جديدة لا تبقى ولا تذر .

وقد يقال لك ، أنه ليس من حق أحد التدخل فى شئون لبنان الداخلية ، وهذا كلام حق تكذبه الوقائع الملموسة ، فليست إيران وحدها التى تفتى فى الشأن اللبنانى ، بل كل الأطراف والأطيار من كل جنس ، من فرنسا الأم الرءوم للكيان اللبنانى الأول ، إلى أمريكا التى تعتبر نفسها الآمر الناهى فى شأن لبنان وسوريا وعدد غالب من أصحاب الأزياء العربية ، ومن الخلف كما من الأمام ، تقود "إسرائيل" ركب التدخل الأمريكى والعربى المزور ، وتعتبر "توماس براك" ـ ومن قبله وبعده ومعه "مورجان أورتاجوس" ـ ممثلها فى الشأن اللبنانى ، قبل وبعد كونه مبعوثا للرئيس الأمريكى الأهوج "دونالد ترامب" ، ويفرض رئيس وزراء العدو "بنيامين نتنياهو" أجندة أولوياته على الجميع ، فهو يريد أن ينزعوا له سلاح مقاومة "حزب الله" جنوب الليطانى وشماله وفى كل لبنان ، وقد شنت طائراته الأمريكية أكثر من أربعة آلاف غارة ضد "حزب الله" وبيئته بعد وقف إطلاق النار المعلن رسميا أواخر نوفمبر 2024 ، استشهد بسببها مئات من قادة وعناصر الحزب ، ومن دون أن يرد الحزب حتى تاريخه ، على سبيل إفساح المجال للدولة اللبنانية أن ترد هى على العدوان ، وهو ما لم يحدث ، اللهم إلا على طريقة "ميشال منسى" وزير الدفاع اللبنانى ، الذى رد مرة على منتقدى الحكومة لانعدام ردها على العدوان المتكرر بصفة شبه يومية ، وكان رده البليغ نصا "نحن نرد بالبرستيج" ، وبدا رد الوزير الهمام مثالا فريدا فى البلاهة ، فالبرستيج تعبير فرنسى يشير إلى الهيبة أو السمعة أو المكانة المرموقة التى يتمتع بها شخص أو شئ ما ، وقد سقط "برستيج" الوزير "منسى" حتى قبل أن ينطق به ، وربما يكون عليه أن يشترى غيره (!) .

وبالجملة ، فلا أحد عاقل يصدق ، أن لبنان العزيز سيكون بخيروكرامة ، إذا جرى ـ لا قدر الله ـ نزع سلاح "حزب الله" ، وهو جيش لبنان الحقيقى الأقوى إضافة للجيش الرسمى الممنوع أمريكيا و"إسرائيليا" من تسليح مناسب ، يتعدى عدة "البرستيج" الكوميدية ، والخصم من قوة لبنان يجعله فى مهب الريح ، ويعطى "إسرائيل" الفرصة لاجتياحه حتى نخاع العاصمة "بيروت" ، تماما كما جرى قبل ميلاد "حزب الله" أوائل ثمانينيات القرن العشرين ، ومن لا يتعظ بتجارب التاريخ ودروسه ، لا يملك القدرة على الإمساك بمفاتيح المستقبل ، وبالذات فى لحظة الفوضى المرعبة التى تجتاح المنطقة اليوم ، وتهدد بإلحاق لبنان ـ كما سوريا وغيرها ـ بأمن ومعية وهيمنة كيان الاحتلال "الإسرائيلى" .
--------------------------------
بقلم: عبدالحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

دفاعا عن كرامة لبنان