يمكن الآن ، وبعد مرور أكثر من نصف قرن علي حرب أكتوبر 73 ، أن نتوصل إلي بعض الإستخلاصات الهامة ، وأبرزها مثلا أثر المظاهرات الطلابية والعمالية التي تفجرت أعوام 1971 و 1972 ، المعارضة لما بدا من سياسات التهدأة التي كان السادات يتبعها ، حيث اتضح أن تلك المعارضة أسهمت فيما بعد - ولو بشكل غير متعمد - بشكل غير مباشر في خديعة العدو .
بعد قراءة أغلب ما نشر من وثائق سرية أمريكية وإسرائيلية عن الفترة التي سبقت حرب اكتوبر 1973 ( وآخرها نشرت عام ، 2009 عن مركز المخابرات المركزية الأمريكية - ماثيو بني ) ، فقد أصبح من الثابت الآن أن أجهزة المخابرات في إسرائيل وأمريكا ، كان لديها كل المعلومات والقرائن التي تؤكد وجود نية لدي القيادة المصرية لشن الحرب ، وأن الترتيبات قد وصلت بالفعل إلي مرحلة متقدمة للغاية .
لقد كانت لديهم كل المعلومات بدرجة مذهلة ، وتوضح الوثائق المفرج عنها أنهم كانوا يعرفون كل شئ تقريباً ، حتي أرقام الوحدات التي تم تحريكها ، ومعدات العبور ، والفتح التعبوي المدفعية والمدرعات ..كل ذلك وغيره كثير ، كانت لديهم معلومات عنه ، إلا أن الفشل الإستراتيجي تركز في تحليل وفرز تلك المعلومات .
كانت هناك أسباب عديدة وردت في أكثر من دراسة بحثت سر غياب التحليل السليم للمعلومات المتوفرة ، كان منها ما تم تسريبه من اتصالات مصرية سوفييتية ، وقناعة القيادة المصرية بأن عبور قناة السويس مستحيل قبل حصول مصر علي سلاح الردع يتمثل في القاذفات بعيدة المدي القادرة علي رد ضربات العمق المصري ، بضرب العمق الإسرائيلي ، وكانت ذلك يبدو بمثابة السر المفتوح الذي صار الجميع علي بينة منه بعد تسرب لقاءالسادات الأخير مع برجنيف في إبريل 1972 ، وكذلك جاء قرار السادات بطرد الخبراء السوفييت في يوليو من نفس العام ، تأكيداً نهائياً بإستحالة قيام السادات بشن الحرب ، وإلا كان ذلك إنتحاراً .
إلا أن المسكوت عنه في كل هذه الدراسات العميقة ، هو دور المظاهرات والضغوط الشعبية المصرية وأثرها في انحراف تقديرات المخابرات الإسرائيلية والأمريكية من زاويتين :
الأولي : أن السادات لا يمتلك الشجاعة الكافية لإتخاذ قرار الحرب ، ولذا فأن ما يقوم به من تسخين وحشد وخطابات نارية ليست إلا عمليات أكروباتية للفت نظر الشعب وتخفيف حدة اندفاعه .
والثانية : أنه حتي ولو امتلك السادات شجاعة اتخاذ قرار الحرب ، فأنه سيتردد في ذلك التوقيت وجبهته الداخلية علي هذا الشكل من الإنقسام والتمزق .
وهكذا ، يمكن القول أن المظاهرات الشعبية ضد السادات ، قد أسهمت ـ من غير عمد ، وبشكل غير مباشر ، في تضليل أجهزة المخابرات في إسرائيل وأمريكا ، مما أدي إلي عجزها في القراءة الصحيحة لأكوام المعلومات الدقيقة التي توفرت لديهم .
ومن ناحية أخري ، لا يمكن إغفال أثر المعارضة الشعبية الواسعة في منح السادات ( ومرة أخري بشكل غير عمدي ، وغير مباشر ) الجرأة في اتخاذ قرار الحرب ، فهو إذا انتصر ، يكون بطل الحرب وصاحب القرار ، وإن كانت النتيجة غير ذلك ، فأنه بكل بساطة كان سيحمل الشعب نتيجة ضغوطه التي أدت إلي قرار مستعجل ، ولا شك أن الشعب كان سيبتلع ذلك الإتهام علي أساس أنه بشكل ما شارك بالفعل في قرار الحرب ، وعليه أن يتحمل نصيبه من اللوم .
وما يمكن استخلاصه أخيراً ، هو أهمية الدور الذي تلعبه الجماهير خاصة في مراحل الصراعات الكبري ، فإذا أتيحت له بالفعل فرص المشاركة الحقيقية في صنع القرار ، ولو من خلال ممثليه في النواب بشرط أن يكون التمثيل حقيقياً ، فأن الشعب في هذه الحالة يكون شريك في المسئولية أيضاً عما يترتب علي هذا القرار .
---------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق