"نحن نعيش في قوس قزح من الفوضى"، هكذا قال الرسام العالمي بول سيزان، وهذه العبارة ترددت في ذهني وأنا أطالع المستندات التي وقعت تحت يدي مصادفة حول ما يحدث داخل معهد الموسيقى العربية التابع لأكاديمية الفنون.
سأروي اليوم قصة تبسط الفوضى العارمة التي تسود جزءًا من كيان عريق داخل أكاديمية الفنون، بعيدًا عن معاني النظام والانضباط التي يتم تصديرها دائمًا كطابع البريد الذي كلما بصقنا عليه التصق أكثر.
بداية عريقة تحولت إلى فوضى مدمرة
حسب موقع الأكاديمية وموقع دار الأوبرا المصرية، تعود بدايات تأسيس المعهد العالي للموسيقى العربية إلى عام 1914 لحفظ تراث الموسيقى العربية. وكان لمصطفى بك رضا الفضل في افتتاح أول نادٍ لعقد اجتماعات الموسيقى العربية، في وقت كانت فيه الموسيقى العربية تعاني من قلة الاهتمام وهبوط مستواها لدرجة أدت إلى تدهورها.
في الاجتماع العام عام 1921، أهدت الحكومة المصرية قطعة من الأرض (مكانها الآن ميدان رمسيس)، وبعد عام واحد تم افتتاح معهد الموسيقى العربية على يد الملك فؤاد الأول تحت اسم "المعهد الملكي للموسيقى العربية"، وكان هدفه الأساسي النهوض بتراث الموسيقى العربية.
في عام 1932، عُقد أول مؤتمر للموسيقى العربية واجتمع فيه الموسيقيون من العالم العربي بالإضافة إلى الموسيقى الشرقية، وكان لعقد هذا المؤتمر المهم الفضل في الارتقاء بمستوى الموسيقى الشرقية.
بعد ثورة يوليو، صدر القانون رقم 78 لسنة 1969 بإنشاء أكاديمية الفنون، وشغل منصب رئيس الأكاديمية عمالقة من المثقفين امتلكوا الخبرة الإدارية وكان الإبداع بوابتهم الرئيسية، أمثال د. عز الدين إسماعيل، ود. سمير سرحان، ود. فوزي فهمي، ود. مدكور ثابت، ولم نشهد وقتها هذا الكم من الفوضى التي وصلت إليها الأكاديمية اليوم.
سرقة الآلات الموسيقية: رحلة من القاهرة إلى الرياض
تعود وقائع القضية إلى فترة تولي الدكتور أشرف زكي رئاسة الأكاديمية، ونائبته وقتها الدكتورة غادة جبارة التي تشغل منصب رئيس الأكاديمية حاليًا، وكان الدكتور أشرف هيكل عميدًا لمعهد الموسيقى العربية آنذاك.
تواطأ طالب (ح.ع) من داخل المعهد مع أمين المخازن لسرقة آلات قانون كثيرة تقترب من سبعة عشر آلة قانون، بطريقة بدت للوهلة الأولى ذكية، حيث استبدل الآلات الأصلية بآلات رديئة الصنع.
تواصل بعض أعضاء هيئة التدريس مع الطالب الذي جاء لإعادة الآلات، وحرروا محضرًا بحضور أمن الأكاديمية. كانت هناك أيضًا آلتان موسيقيتان في السعودية تعرضان في مجموعة واتساب تخص الأكاديمية، فتقدم بعض أعضاء هيئة التدريس بشكاوى إلى الرقابة الإدارية والنيابة العامة والجهاز المركزي للمحاسبات، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء جاد.
ظهرت آلات أخرى في السعودية تخص الأكاديمية مع شخص يُسمى سلطان عبد الحليم، وبمجرد أن علم أنها تخص مصر والأكاديمية أعادها، ووقتها دفع الدكتور أشرف زكي مبلغ 120 ألف جنيه نظير استردادها.
منذ بضعة أشهر ظهرت آلة موسيقية أخرى مع طالب آخر يُدعى (م.ن)، وتم تبليغ رئيسة الأكاديمية الحالية الدكتورة غادة جبارة بمذكرة على مكتبها، لكنها لم تتخذ أي إجراء. هذه آلات ذات قيمة عالية جدًا، وتم إبلاغ الرقابة الإدارية بشأن هذه الآلة، لكن يبدو أن هناك تعتيمًا شديدًا على ما يحدث بشأن سرقة هذه الآلات.
أساتذة معهد الموسيقى العربية: رحلة البحث عن العيش خارج الوطن
يجب أن نؤكد أن الكوادر البشرية داخل أكاديمية الفنون تمثل أمنًا قوميًا في المرتبة الأولى، ومعنى تسريب هذه الكوادر ببساطة هجوم على أمننا القومي الثقافي، فيجب أن نقف ونتأمل: لماذا يحدث معنا هذا؟
هناك أعضاء هيئة تدريس سافروا لشهور طويلة خارج البلاد في الفترة من عام 2021 إلى 2025، ومنهم على سبيل المثال: د. أحمد يوسف عميد معهد الموسيقى العربية، ود. هشام العربي، ود. أحمد القصبجي، ود. محمد عاطف إمام، ود. أحمد عاطف، ود. رضا رجب، ود. ياسر طه، وأ. محمود عامر، وأ. عامر عامر، ود. محمود بدير، ود. عماد عاشور، وأ. إسلام القصبجي، ود. سعيد كمال، ود. محمد قطب، ومنهم من تجنس بالجنسية السعودية.
لا نتعجب أو نندهش من قول معالي المستشار تركي آل الشيخ بأنه سيستعين في مواسم السعودية بالسعوديين، فله كل الحق في ذلك. المشكلة الحقيقية ليست عنده بل عندنا نحن، فهو يريد بلده في أبهى صورة بأفضل الكوادر البشرية.
مواجهة صامتة مع رئيسة الأكاديمية
عندما اجتمع بعض أعضاء هيئة التدريس مع د. غادة جبارة لمناقشة سفر هؤلاء الأساتذة وحصولهم على مرتباتهم بالكامل وتجنيسهم بالجنسية السعودية دون موافقة من مجلس القسم داخل المعهد - ويكفينا أن نرجع لتواريخ حفلات مواسم الرياض وحفلات ليالي محمد الموجي وبليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب ومحمد عبده وعبادي الجوهر وكثير من الحفلات - قالت لهم: "إنهم وجه مشرِّف لمصر ولا أستطيع أن أقطع عيش أي أحد منهم".
الدكتورة غادة محقة فيما تقوله، لكنها نسيت أو تناست أن كل فنان في أي دولة وجه مشرف لبلده، لكن ليس معنى هذا أن يترك أستاذ الجامعة واجباته والحقوق التي عليه تجاه بلده وأبناء بلده من طلاب جاءوا ليتعلموا الفنون عن حب وعن قناعة داخل الأكاديمية. إضافة إلى هذا، سحب هذا الكم من الكوادر داخل معهد الموسيقى العربية على الرغم من أن أول قرار أصدرته الوزيرة السابقة دكتورة نيڤين الكيلاني بشأن الأكاديمية هو وجوب موافقة الأكاديمية على سفر أي عضو هيئة تدريس، وهذا لم يحدث إطلاقًا.
أزمة الهوية والانتماء
إن ما يحدث في معهد الموسيقى العربية ليس مجرد أزمة إدارية عابرة، بل هو انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بالهوية والانتماء. فعندما تتحول المؤسسات التراثية إلى مجرد محطات عبور للكوادر المتميزة نحو فرص أفضل في الخارج، فإننا نفقد جزءًا من روحنا الثقافية.
المفارقة المؤلمة أن هذه الكوادر التي تعلمت وتدربت في أحضان المعهد العريق، والتي صُقلت مواهبها على أيدي أجيال من الأساتذة المصريين، تجد نفسها مضطرة للبحث عن التقدير والعيش الكريم خارج الوطن. وفي المقابل، تبقى الإدارة عاجزة عن إيجاد حلول جذرية لمشكلات المعهد المتراكمة.
يحتاج معهد الموسيقى العربية إلى إصلاح شامل يبدأ بمحاسبة المقصرين في قضايا سرقة الآلات الموسيقية، ووضع آليات صارمة لحماية التراث الموسيقي المصري. كما يتطلب الأمر وضع استراتيجية واضحة لاستبقاء الكوادر المتميزة من خلال تحسين أوضاعهم المعيشية والمهنية.
إن إهمال هذه المؤسسة العريقة لا يعني فقط فقدان آلات موسيقية أو أساتذة متميزين، بل يعني فقدان جزء من الذاكرة الثقافية المصرية، وهذا أمر لا يمكن السكوت عليه أكثر من ذلك.
نحن أمام خيار صعب: إما أن نتحرك بجدية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الكيان العريق، وإما أن نترك "فوضى قوس قزح" تكمل مسيرتها التدميرية حتى لا يبقى شيء من تراثنا الموسيقي العظيم.
-------------------------
تقرير: صبري ممدوح