14 - 08 - 2025

مصر بين ما يقوله الواقع وما تمليه قوى صناعة الوهم وتغييب الوعي

مصر بين ما يقوله الواقع وما تمليه قوى صناعة الوهم وتغييب الوعي

تشهد مصر اليوم حالة معقدة من التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتشابك فيها الطموحات الوطنية مع التحديات الداخلية والخارجية. في المشهد العام، يمكن تلمّس ملامح دولة تسعى جاهدة لتعزيز حضورها الإقليمي، وتنفيذ مشروعات بنية تحتية ضخمة، وإعادة رسم ملامح اقتصادها من خلال خطط طموحة للتنمية. لكن خلف هذه الصورة المعلنة، تتشكل ملامح أخرى أقل بريقًا، تعكس قلق المواطن العادي من ضغوط المعيشة، وارتفاع الأسعار، وتراجع القوة الشرائية، وهي أبعاد لا يمكن تجاهلها إذا أردنا قراءة الواقع قراءة متكاملة.

في الجانب الاقتصادي، تواصل الحكومة المصرية تنفيذ سلسلة من المشروعات الكبرى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وشبكات الطرق الحديثة، ومحطات الطاقة العملاقة، التي تُقدَّم رسميًا باعتبارها قاطرة التنمية. هذه الخطط، رغم طموحها، تأتي في سياق اقتصادي يواجه ضغوطًا غير مسبوقة: ارتفاع معدلات التضخم، وتزايد أعباء الدين العام، واحتياج العملة المحلية إلى استقرار أكبر أمام العملات الأجنبية. المواطن المصري، الذي يلمس يوميًا تغير الأسعار في الأسواق وفواتير الخدمات، يجد نفسه في معادلة صعبة بين الإعجاب بحجم الإنجاز، والتساؤل عن تأثيره الفعلي على معيشته اليومية.

على المستوى الاجتماعي، يظل الملف المعيشي حاضرًا بقوة. مشكلات الإسكان، وتكدس المدارس، والضغط على المرافق الصحية، كلها تحديات تتشابك مع التحولات السكانية السريعة والهجرة الداخلية نحو المدن الكبرى. هذه القضايا لا تظهر في واجهة الخطاب الإعلامي بنفس الزخم الذي تحظى به مشروعات الافتتاحات الرسمية، وهو ما يخلق فجوة في وعي الجمهور بين ما يراه وما يسمعه.

بين الواقع اليومي وما يصل إلى الجمهور، ثمة فجوة واسعة يصنعها الإعلام المحلي الذي كثيرًا ما يقدّم صورة انتقائية، تركز على الإنجازات والمشروعات الكبرى، وتتجاهل أو تُقلل من الأزمات والاختناقات المعيشية. هذا الإعلام، سواء كان رسميًا أو خاصًا متماهيًا مع الخطاب الحكومي، لا يكتفي بالتحيز في اختيار الأخبار، بل يلجأ أحيانًا إلى صياغة سرديات مضللة بالكامل، حيث تُضخّم الإيجابيات إلى حد الأسطورة، وتُموَّه الحقائق السلبية عبر أرقام وإحصاءات منتقاة بعناية أو مقارنات غير دقيقة مع أوضاع خارجية. ففي الوقت الذي قد يخصص فيه بثًّا مباشرًا على مدار الساعة لافتتاح جسر أو مصنع جديد، قد يمر مرور الكرام على تقارير عن ارتفاع أسعار السلع أو عجز بعض المستشفيات عن توفير الأدوية، بل وقد يعمد إلى إنكار أو التشكيك في صحة هذه الأخبار باعتبارها "مبالغات" أو "حملات مغرضة". هذه الممارسات لا تحجب المعلومات فحسب، بل تخلق رواية موازية لما يجري على الأرض، تجعل المواطن أحيانًا يشعر وكأنه يعيش في واقعين متناقضين: واقع يراه بعينيه في الشارع والأسواق والمواصلات، وآخر مصطنع يلمع على شاشات التلفاز ومواقع الأخبار الموالية، حيث لا مكان إلا للإنجازات المتتالية والانتصارات المستمرة، وكأن الأزمات الكبرى ليست سوى شائعات أو أحداث عرضية لا تستحق الالتفات.

أيضا هناك مشهد سياسي يتسم بتركيز السلطة التنفيذية على رسم أولويات الدولة وفق رؤيتها الخاصة، دون إفساح مجال حقيقي لمشاركة القوى السياسية الأخرى في صياغة القرارات المصيرية. الحضور المحدود للمعارضة السياسية التقليدية ليس فقط نتاج ضعف تنظيمي أو تشتت داخلي، بل هو أيضًا نتيجة مناخ سياسي مُحكم، تُرسم فيه حدود الحركة مسبقًا، وتُدار فيه النقاشات العامة ضمن مسارات مرسومة بعناية من قبل أجهزة الدولة. المسؤولون، في تصريحاتهم العلنية، كثيرًا ما يقدّمون روايات متناقضة أو منقوصة للواقع؛ فبينما تُصرّ الخطابات الرسمية على أن الوضع الاقتصادي "مستقر" وأن معدلات النمو "تسير في الاتجاه الصحيح"، تكشف البيانات الفعلية وتقارير المؤسسات الدولية عن أزمات هيكلية في الدين العام، وتراجع القوة الشرائية للمواطن، وارتفاع نسب البطالة المقنعة. هذه التناقضات لا تأتي من فراغ، بل هي جزء من أسلوب ممنهج لتوجيه الرأي العام، حيث يتم تضخيم أي مؤشرات إيجابية – حتى لو كانت جزئية أو مؤقتة – وتجاهل المؤشرات السلبية أو تفسيرها على أنها "ظروف عالمية" أو "تحديات خارجية" خارجة عن السيطرة. وفي حالات أخرى، تُستخدم الأرقام والمصطلحات الفنية لإرباك المتلقي وإعطاء انطباع بالشفافية، بينما يتم إخفاء التفاصيل الجوهرية خلف جمل فضفاضة لا تقدم ولا تؤخر. بهذا الشكل، يصبح المشهد السياسي والإعلامي متشابكًا في إنتاج سردية رسمية موحّدة، تسعى لإقناع الداخل والخارج بأن كل الأمور تحت السيطرة، حتى وإن كانت الحقائق على الأرض تشير إلى العكس.

بالنهاية لا يمكن قراءة المشهد المصري من زاوية واحدة أو الاكتفاء بالانطباعات المعلنة على الشاشات. فخلف أرقام النمو المعلنة وصور الافتتاحات المتكررة، هناك واقع يومي يتشكل من تفاصيل المعيشة الصعبة، وضغوط الاقتصاد، ومناخ سياسي محدود المساحة للتعددية. هذا التباين بين الخطاب الرسمي والواقع الملموس لا يصنع فقط فجوة في الوعي، بل يهدد أيضًا بتآكل الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة إذا استمر دون معالجة. فالدول لا تُقاس فقط بما تُنجزه من مشروعات، بل بقدرتها على مواجهة الأزمات بصدق، وإشراك مواطنيها في صناعة القرار، وضمان وصول المعلومة بلا تزييف أو انتقائية. ربما يكون التحدي الأكبر أمام مصر اليوم ليس مجرد تجاوز أزماتها الاقتصادية أو تعزيز موقعها الإقليمي، بل بناء سردية وطنية صادقة تعكس الواقع كما هو، وتفتح الباب أمام حلول حقيقية تتجاوز الشعارات إلى الأفعال الملموسة.
-----------------------------
بقلم: محمد الحمامصي


مقالات اخرى للكاتب

مصر بين ما يقوله الواقع وما تمليه قوى صناعة الوهم وتغييب الوعي