14 - 08 - 2025

لطفي لبيب.. عندما يتقمص المتفرج الدور

لطفي لبيب.. عندما يتقمص المتفرج الدور

كان من المعتاد أن نلتقي صباحًا، هو مصطحبًا أطفاله إلى المدرسة في سيارته المتواضعة، وأنا إلى مقر عملي في ضاحية مصر الجديدة، نتبادل نظرات احترام مع ابتسامات. لم يكن قد حقق شهرة واسعة بعد، لكنه كان معروفًا. كان ذلك في منتصف التسعينيات. 

طوال مسيرته المهنية اكتسب الفنان الراحل لطفي لبيب، بالتزامه وحرفيته، احترام قطاع عريض من الجمهور. كان محترفًا يعرف كيف يترك الأثر، صَغُرَ الدور أو كَبُرَ.

موهوب يقنع المشاهد بأدواره المختلفة من اللحظة الأولى بعفويته، ولكنته، وملابسه ولغة جسده. راجع دوره في فيلم "السفارة في العمارة" وبراعة تقديمه شخصية دبلوماسيٌّ يحمل تحت جلده إرثًا عتيقًا من صفات وعادات عرفتها الأدبيات المحلية في شخصية اليهودي الـماكر والعالمية في شخصية شيلوك المرابي في تحفة وليم شكسبير الأدبية، "تاجر البندقية"، جَزَمَ له المتفرج - من شدة تقمصه للشخصية - أن لطفي يهودي بالفطرة. 

إلا أن المتفرج لا يلبث أن يراه مع محمد هنيدي ودنيا سمير غانم في فيلم "يا أنا يا خالتي" ساحرًا مشعوذًا حتى يغير رأيه ويعلق: لا، بل هو هذه الشخصية. ويستمر على هذا الاعتقاد حتى يشاهده في فيلم "عسل أسود" سائقُ فهلويّ يقرأ الزبون من النظرة الأولى ويبيع له الهوا من كل لون في "أزايز"، كما في التعبير الشعبي الدارج.

وفي العادة يصل الممثل إلى هذا المستوى من الإتقان بمعايشته للشخصية أمام وخلف الكاميرا، سواءً بسواء، فيتعامل مع من حوله بهذه الروح.

ويعد هذا النوع من التقمص الفني ظاهرة عالمية يتجلى فيها اندماج الممثل بالشخصية إلى حدٍّ قد يُلامس حدود الانفصال عن الذات، يدفع بسببها نجوم السينما العالمية ثمنًا نفسيًا باهظًا في سبيل إتقانها، من ذلك، ما شاع عن الممثل الأسترالي هيث ليدجر أثناء تجسيده شخصية الجوكر في فيلم "فارس الظلام The Dark Knight" حين عاش في عزلة وانفصال نفسي كبيرين عن العالم لمدة شهرين لإتقان الدور، أدت إلى تعرضه لأزمة نفسية عقب انتهاء التصوير تسببت في وفاته لاحقاً.

وكذلك الممثل الأمريكي جاريد ليتو الذي أدى دور مدمن مخدرات في فيلم "مرثية حلم Requiem for a Dream"، حيث فقد الكثير من وزنه، وامتنع طواعية عن بعض أنشطة حياته اليومية جراء تقمص دوره بشكل كامل.

والممثل البريطاني دانييل داي-لويس، الذي ظل بعد أداء دور الرئيس الأمريكي السادس عشر، أبراهام لينكولن في فيلم "لينكولن" محافظاً على لكنة وطريقة كتابة لينكولن لفترة طويلة بعد التصوير. تعامل مع من حوله كرئيس وليس كممثل! 

على الجانب الآخر، هناك عزيزي القارئ من يعيش في الحقيقة أدوارًا مسرحية غير واقعية نسجها خياله، فيتعامل مع من حوله وقد استقرت في قرارة نفسه صورة مفصولة عن الواقع، تُنكر المشاهدات الحية على الأرض، جسدها الأدب في العديد من الروايات.

في روايته مدن الملح، رسم الروائي السعودي عبد الرحمن منيف صورة للشيخ "متعب الهذال"، المرتبط بالبادية والقبيلة الرافض للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها اكتشافات النفط من تغيير عمارة المدن وتوافد الغرباء بعاداتهم وتقاليدهم، فعاش في عزلة تامة عن المحيطين به، رافضًا المشاركة.

وإذا كان متعب قد عاش خيالاً ماضويًا يرفض الواقع فعلى العكس عاش "دون كيخوته" في رواية الكاتب الإسباني ميجيل ثيربانتش خيالاً أسطوريًا صنعه من قراءاته تجاهل معه الواقع، ووصل به إلى مرحلة تفسير كل ما يراه من منظور أوهامه عن الفروسية حتى صار موضع سخرية المجتمع.

وكذلك كان "الدرويش" في رواية زقاق المدق لنجيب محفوظ، شخصية تائهة بين واقعين شرقي متخلف وغربي متقدم حصره في وقوفه عند ترجمة بعض الكلمات وهجائها بشكل استعراضي، فلا شرقًا طور، ولا غربًا استوعب، فعاش تائهًا بلا هوية.

وهكذا كان لطفي لبيب؛ فنانًا يخرج من كل دور كما يدخل إليه، بوعي الممثل المحترف الذي يعرف أن الخشبة تنطفئ مع آخر مشهد، ويظل إنسانًا بين الناس. ولعل هذا ما نفتقده أحيانًا في واقعنا، حين يُصر بعض المتفرجين على تقمص أدوار خيالية، يدفع ثمنها باقي المتفرجين.
------------------------
بقلم: 
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

لطفي لبيب.. عندما يتقمص المتفرج الدور