مُمتعٌ أن يَرى الكاتبُ أثرَ ما يكتُب في نفس قارئه، سواء تأييدا أو رفضا، ولا شك أنّ التأييدَ يكونُ أمتعَ وأروع !
هذا ما حَدثَ معي بالفعل، وجلبَ لي شعورا بالسعادة لا أستطيعُ وصفَه .
اتصلتْ بي بصوت تخنقُه العَبْرة، فخرج لا يكاد يَبين تقول: إشارتك إلي أبي في رثائك لعمي، هيّجتْ مشاعري، وعادتْ بي إلي أكثر من ٣٥ سنة، كنتُ خلالها طفلة أرفلُ في نعيم أسرةٍ خيَّم عليها عطفُ الأب، وحنانُ الأم .
في بستان والديَّ الوارف، الذي غرسه أبي - طيّبَ الله ثراه - وتعهدته أمي ـ برّد الله مضجعها ـ عشتُ أتفئ ظلال الحب والمودة والرحمة، أطلبُ فأُجاب، وأتكلمُ فيُسمعُ لي، وأتمني فيأتيني ما أريد !
زلزلتْ كلماتُ (آمالي) كِياني، وأربكتْ الأفكارَ في ذهني فبأيِّ فكرة ممّا ساقته لي أبدأ ؟
ظللتُ فترة أضرب ( أخماس في أسداس )، وأخيرا استقر قراري على أن أترك العنان لقلمي ليُسطر ما شاء، واثقا من أنه لن يخذلني، أو يخونني التوفيق؛ لرغبتي في إسعاد فتاةٍ - كانت وما زالت - بارة بأبيها وأمها أعظمَ ما يكونُ البر، حريصة علي أن تصل إليهما دعواتُ الرحمة والمغفرة من قراء البريد، وأثق بأنهم لن يحرموها ما تتمني .
وحتي لا أزيد القارئ تشويقا أقول :
هي ابنةُ الأستاذ الراحل ( س - ح) - رحمه الله - ناظرِ مدرسة العمار الإبتدائية أوائل الثمانينات، والذي كان يصحبها معه في رحلة يومية من مدينة بنها مَحلِ إقامته إلي المدرسة الإبتدائية بقرية العمار محل عمله، ومسقط رأسه .
وخلال قرب آمالي من أبيها، في العمل والبيت، اليقظة والمَنام، الحِلِّ والتَرحال، لمستْ فيه حلما وظرفا، وعاشت تدليلا لم تعشه فتاة .
وإذا كانتْ كلُّ فتاة بأبيها مُعجبة، فإنها بأبيها أشدُّ إعجابا، وكيف لا وقد جمع الرجلُ من الخصال ما يجعلها تبكي عليه أبد الدهر !
كان حِلمُه - رحمه الله - يسبقُ غضبَه، ونصحُه يسبق لومه، بل قُلْ إنه لم يلمها قط، وكيف يلومها وهي فلذةُ كبده، ونورُ عينيه، ومُهجةُ فؤاده، وابتسامةُ ثغره، وإشراقةُ مُحيّاه .
هي نِسمته الباردة في الحر القائظ، ودفئه في شدة الزمهرير .. هي أماني عمره، وأمنياتُ حياته، كانت أقصى عبارات لومه لها: ( آه ياني يا آمالي يا تعباني يا مغلباني ) .
ذكرتْ لي آمالي أنّ أباها امتاز إلى جانب حَزمه بخِفة الظِلّ، فقد دخلت حجرةَ مكتبه يوما، وكان مُنشغلا في اجتماع مع المدرسين، فسألته عن صورة للزعيم سعد زغلول، وُضعتْ في برواز علي مكتبه، فأجابها: ( ده جدك ياحبيبتي ).
عَلقتْ العبارةُ بذهن الطفلة، واعتادتْ، كلما دخلت مكتبَ أبيها تُسلمُ علي صاحب الصورة قبل أبيها باعتباره جدها، وظلت هكذا، لم تُصحَح لها المعلومة، إلا بعدما كبرت، ورأت أنّ ملامح وجه تمثال سعد زغلول بمدينة بنها، هي نفس ملامح الصورة علي مكتب أبيها، والذي قال لها ذلك ليصرفها دون أن يَكذب !
هنا يسكتُ صوتُ آمالي، وتعود بي الذاكرة إلي الوراء لأستحضر صورة ذلك الرجل الحازم، وهو يقف في طابور الصباح، يقاوم برد الشتاء ببالطو من الجوخ، وعلي وجهه نظارةٌ سوداء، فيبدو كنجم سينمائي، تمسك بكفه (بنوتةٌ) صغيرة ترتدي معطفا أسود، و تقف شامخة تلوذ بعزّ أبيها .
نشأ الراحل (س ـ ح) في مدرسة أمه، وكانت امرأة حافظة مُتقِنة لكتاب الله، حباها الله من خصال الخير والطهر والعفاف، ما يجعلُها مدرسة يقصدها كلُّ من ينشدُ النبل والنقاء .
هي سليلةُ بيت فضل وعلم، وإحدى قريبات الشاعر الكبير العوضي الوكيل، صاحبُ العقاد، و يُحكى أنّ قصيدته المعروفة، التي يقول فيها:
شجـرُ المشمـس ازدهـــر / وغدا أبيـضَ الغــرر
وسرى البشر في الغصون / نضارا وفي الزهــر
قيلت وسط حقول العمار أثناء زيارته لقريبته رحمها الله .
الراحلُ (س ـ ح ) نموذجٌ يُحتذَى في الإدارة، التي تجمع إلي جانب الحزم الرحمة، وإلي جانب الجِدِّ المرح، وإلي جانب الانضباط تطبيق روح القانون، الذي يرحمُ به الضعيف، ويُساعد به المُحتاج، ويفرّج به همَّ المكروب، وهو ما جعله ناجحا في عمله مُرحّبا به في كلِّ بلد عربي أُعير إليه .
رافقتْ المربي الراحل زوجةٌ، كانت بحق حورية من الجنة ( نبلا وإخلاصا ووفاء )، فأحسنتْ تربيةَ أولادها، ووقفتْ إلي جوار زوجها يدا بيد، يبنيان مجد بيت قام علي المحبة والصدق والإخلاص.
امتاز الفقيدُ - رحمه الله - بذكاء خارق، وذهنٍ وقَّاد، جعله زينةَ المجالس، يُرجَع لرأيه، ويُذعِنُ الكلُّ لما يقول .
رحم الله الفقيد الكبير، وزوجته الوفيَّة، وبارك في ذريته، خاصة آمالي حفيدة سعد زغلول، كما أخبرها أبوها ليتخلص من (دوشتها) وزنِّها !
المقال إحدى رسائل البريد التي وصلتني .
--------------------------
بقلم: صبري الموجي
- مدير تحرير الأهرام