لم تَحُل سنه الكبيرة بينه وبين ممارسة عمله الأكاديمي كأستاذ للنحو وعلم اللغة بجامعة بنها، والإشراف علي الرسائل العلمية، والمشاركة في المؤتمرات والمحافل، التي تناقش قضايا اللغة العربية وسُبل تطويرها .
كان وجوده بكلية الآداب بجامعة بنها ضمانة اعتمادٍ وجَودة لذلك الصرح العلمي الوليد، الذي صار عقب استقلاله عن جامعة الزقازيق مُجبَرا علي الدخول في حلبة المنافسة مع الكليات والمعاهد العلمية المناظرة، لكنه ـ أقصد ذلك الصرح ـ حافظ علي استقراره، وثبات قدمه بوجود ذلك العلم باعتباره ربَّ الصرح، وربان السفينة، المنوط به أن يصل بها إلي بر الأمان، ويواجه الأعاصير المناوئة، والتيارات الهدامة .
في تخصص النحو وعلم اللغة، كان لكلّ صرح علمي عالِمه الفذّ، وفارسه الأوحد، وبطله المغوار، الذي تنتهي إليه الكلمةُ وفصلُ الخطاب، فكما كان لجامعة الإسكندرية العلّامة عبده الراجحي، ولعين شمس رمضان عبد التواب، وعوني عبد الرءوف، وللقاهرة عبد الصبور شاهين، ومختار عمر، وبشر وغيرهم عن دار العلوم، وفهمي حجازي عن كلية الآداب، فإنّه كان لجامعة بنها العلّامة محمد إبراهيم عبادة، الذي ما انفك يذود عن حياضها، ويرفع رايتها، يُردد ما قاله عنترة:
أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم .
عُرف عبادة بهمّته العالية، ونشاطه في التأليف في مجالي النحو واللغة، فكانت كتبُه مطلب الدارسين، ومرجعَ الباحثين، ومُرشد الأكاديميين؛ لما امتازت به من شمول الفكرة، وجمال الصياغة، وروعة السبك، ورغم أنّ مادة النحو جافة صلدة في طبيعتها، إلا أنها تختلف إذا صيغت بأسلوب أديب، وعقلية مُفكر، وهكذا كان عبادة، حفظه الله !
صنّف عبادة العديد من الكتب، التي شرحت اللغة، وبسَّطت علم النحو منها: النحو العربي: أصوله وأسسه وقضاياه وكتبه وصلته بالدرس اللغوي الحديث، والجملة العربية: مكوناتها- أنواعها- تحليلها، وغيرهما من الكتب النافعة الماتعة، التي إن دلّت، فإنما تدل علي رجاحة عقل عبادة، وإلمامه بفنون ذلك العلم، ومعرفة خباياه .
امتاز عبادة بحنوٍ وحلم مُنقطع النظير، بيد أنه لم يُرزَق الولد، فجعل كلّ الطلبة والباحثين أبناءه، فلم يدخر في توجيهم، والأخذ بأيديهم وسعا، ولم تكن لأحدهم مشكلة بحثية، أو حتى مادية إلا يسّرها له، وساعده في حلها.
في نقاشاته بمجلس القسم، رغم أنه أستاذ الكلّ، ولا يجرؤ أحدٌ على مراجعته اعترافا بفضله، إلا أنّ لسان حاله معهم، كان كما قال الفرزدق في عليّ زين العابدين:
يُغضِي حياء ويُغضَي من مهابته … فما يُكلَم إلا حين يبتسمُ .
رغم علوّ مكانة عبادة، إلا أنه امتاز بتواضع جم، جعله يعيش كما يعيشُ البسطاء، يبتاع في السوق، ويستقل المواصلات العامة، ويُخالط البسطاء، ويساعد المُحتاجين، مع محافظته علي كونه عالما لا يُشقُّ له غبار، وتُمتطي له المطايا، يرفع وجودُ اسمه علي رسائل الباحثين رءوسهم إلي عنان السماء .
قديما قيل: إن فاقد الشيء لا يعطيه، إلا أنّ حال العلامة عبادة جاء ليضرب ذلك المثل في مقتل، إذ إنه حُرم زينة الذرية من صلبه، فاستعاض عنها بأبوة أشمل وأعمّ، فكانت أبوته لكلّ الباحثين والدارسين، واستوعب حنوه الكلّ .
ضرب عبادة أروع أمثلة الوفاء، فقد تركتْه رفيقةُ دربه مبكرا إلي رحاب ربها، فعاش وحيدا رغم تقدم سنه، وحاجته إلي عون وسند وفاء لذكراها .
لم يشُق يوما علي باحث، ولم يُلزم أحدا بما لا يلزم، وحيث إنّ راحة المُناقِشين للرسائل العلمية في الانتقال من وإلى قاعة المناقشة، هي شغل الباحثين الشاغل؛ لتكون مناقشة الأساتذة لهم بردا وسلاما، فإنّ عبادة بروح العالم وشعور الأب، خالف جلّ الأساتذة في ذلك، فكان يرفض مُطلقا أن يوفر له أحدٌ وسيلة مواصلات، و يُفضّل المواصلات العامة، مُتكبدا مشقة العَرق والجهد، حِسبة لله، وإيمانا برسالته.
ناهز العلامة عبادة قرابة التسعين، إذ إنه من مواليد 1932م، وما زالت ذاكرته حاضرة، وقلبُه عامرا بالإيمان والإخلاص للعلم والبحث، يتغلب علي شبح الوحدة بالذكر والدرس والمطالعة.
كان الحديث عنه مُبيتا، ولكن عجّله اتصالٌ هاتفي من باحث، عاتبني عتاب المُحب، ولامني على عدم الكتابة عن شيخنا عبادة، فشرعتُ على الفور، أكتب عن عبادة العالم الإنسان، خريج دار العلوم، العازف علي ناي الوحدة .
--------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام