11 - 08 - 2025

جمهورية التفاهة… حين يصبح "أبو لمعة" قدوة الأمة،،!

جمهورية التفاهة… حين يصبح

في هذا الزمان، لم يعد للجدية أي رصيد في بورصة القيم، بينما أسهم التفاهة تحلق في السماء بلا سقف. صار المقياس الجديد للمكانة الاجتماعية هو عدد الإعجابات التي تحصدها، لا عدد الأفكار التي تنتجها. نعيش في زمن إذا أردت فيه أن تكون نجمًا، فكن خفيف الظل… أو خفيف العقل.

قال أنطون تشيخوف قبل أكثر من قرن: "في المجتمعات الفاشلة، تسود التفاهة ويُقصى العقل، ويتقدم الضجيج على المعنى"… ولو بعث اليوم من جديد، لاكتشف أننا نعيش نفس الوصفة بحذافيرها، مع تحديثات مجانية من إنتاج القرن الحادي والعشرين...،،

لم يعد انهيار الأخلاق في مجتمعنا بحاجة إلى أدلة أو بحوث اجتماعية؛ يكفي أن تنظر حولك لترى البراهين تمشي على قدمين. الأخلاق لم تسقط فجأة، بل تآكلت على مهل، حتى صار الكذب ذكاء، والغش شطارة، والنفاق مهارة اجتماعية، والتفاهة جواز مرور إلى قلوب الجماهير. في المقابل، أصبح الصدق سذاجة، والأمانة عبئاً، والكلمة الجادة جريمة في حق "مزاج الناس".

 في قريتي، كما في الوطن الكبير، أصبح النجاح له وصفة بسيطة: كن تافهاً، واضحك على الناس، أو غني لهم شيئاً بلا معنى، وستجدهم يرفعونك فوق أكتافهم. أما إذا حاولت أن تكتب أو تفكر أو تصرخ بالحقيقة، فاستعد للعزلة، فأنت تعكّر صفو السهرة.،

وليس الأمر مقصوراً على الشاشات أو المنصات؛ فحتى على أرض الواقع، قد تصادف مشاهد هزلية لا تقل تفاهة عن عروض السيرك. عندما تجمعك المناسبات برجل يراه المجتمع من "النخبة"، وتتوقع أن تسمع منه رأيًا ناضجًا أو فكرة عميقة، تكتشف أنك أمام شخصية أرجوزية، فارغة من أي مضمون، كل ما يملكه هو المظاهر اللامعة. والأسوأ أن بعض حاملي أعلى الشهادات الأكاديمية لا يستطيعون إدارة حوار مفيد، ولا تسمع منهم سوى عبارات عامة وأحاديث سطحية، كأنك أمام نسخة مكررة من شخصية "بيجو" أو "أبو لمعة" في مسرحية هزلية طويلة...،

 هنا، كل أغنية بلا معنى يمكن أن تصنع "أسطورة شعبية"، بينما كتاب جاد أو فكرة تنويرية تظل مكدسة على رف مغبر في مكتبة لا يدخلها أحد. الناس يرقصون على أنغام الهراء، ويحفظون كلماته كما يحفظون أرقام هواتفهم، ويتناقشون في تفاصيله كما لو كان مشروعاً قومياً.،،

 في المقاهي، أحاديث الساعات تدور حول آخر فضيحة لمطربة اعتزلت ثم عادت، أو لاعب كرة بدّل تسريحة شعره، أو فيديو "ترند" لشخص يرقص في المطبخ. أما القضايا المصيرية مثل انهيار التعليم، وتفكك المجتمع، وضياع الموارد، فهي مواضيع ثقيلة "لا تناسب مزاج الشعب".

و الأجمل أن هذه الظاهرة ليست حكراً على القرية؛ هي ماركة عربية مسجلة. في عواصمنا، نفس المشهد يتكرر: التافهون يتصدرون المشهد، والجدية في أسفل الترتيب، والناس يبحثون عمّن يلهيهم لا عمّن ينقذهم. نحن بارعون في الهروب من الواقع، حتى أصبح الواقع نفسه يهرب منا.... وإذا كان مقياس النجاح اليوم هو حجم الضحك الذي تثيره أو كمية الهراء الذي تنشره، فلا تلومنَّ أحدًا حين يصبح الغد أكثر تفاهة من اليوم، وحين نصحو لنكتشف أن ما ضاع لم يكن الوقت فقط، بل كرامة العقل أيضًا....وقد يقول قائل: "وما الحل؟"… والحقيقة أن الحل ليس معقدًا، لكنه للأسف "غير رائج" على منصات التواصل، ولا يأتيك بآلاف المتابعين في أسبوع. الحل ببساطة أن نتوقف عن استهلاك التفاهة كما لو كانت وجبتنا المفضلة، وأن نتذكر أن العقول إذا لم تُستخدم تصدأ، وإذا صدأت صدّرنا للعالم نسخة طبق الأصل من "أبو لمعة".

لكن… ما زال هناك أمل، فالعقل مهما حوصر يبقى قادراً على أن ينهض، والكلمة مهما حوربت تبقى قادرة على أن تُسمع. فقط علينا أن نكف عن التصفيق لـ"أبو لمعة" وأن نمنح عقولنا فرصة لتتنفس قبل أن نختنق جميعًا في جمهوريتنا المزيفة... !!

------------------------------------
بقلم: 
محمد سعد عبد اللطيف

كاتب  وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية..،!!

مقالات اخرى للكاتب

جمهورية التفاهة… حين يصبح