11 - 08 - 2025

مأساة الأطباء النواب

مأساة الأطباء النواب

اختفت أحلام الأطباء بالعيون الشهيرة التي ألصقها العامة بهم تقديرا لمكانتهم المتميزة. لم يعد يحلم أي منهم بعد تخرجه وطوال سنوات طويلة بعدها باهم عين "عيادة" ولا يجرؤ مجرد التفكير في العين الثانية "عربة" ولا يشطط بخياله بالثالثة ""عروسة"، وأطاح تغير الظروف والتمدن تلقائيا بالعين الرابعة "عزبة".

لم يتبق لهم سوى العين الخامسة والأخيرة والتي تقلصت أحلامهم عليها وإن بدت هي الأخرى مستحيلة.

عين الرحمة التي يلهث شباب الأطباء وراءها، مطالبين كل من بيدهم الأمر بالنظر إليهم بها وتقدير حجم المأساة التي يعيشونها وقدر الآلام التي تحاصرهم وتهدر سنوات عمرهم بقسوة وتهدد حياتهم نفسها بالضياع.

ليس في الأمر مبالغة أو تهويل بل هو واقع مرير يعيشه في صمت الأطباء الشباب ممن إلتحقوا بالسلك الجامعى بعد سنوات من الجد والمثابرة والتفوق .. بعدها بدأوا أولى خطواتهم العملية .. أصبحوا نوابا في المستشفيات الجامعية، وفتحوا صدورهم رغبة وأملا في إكتساب الخبرة العملية بشكل أوسع .. الإحنكاك المباشر بالمرضى .. متابعة الحالات.. وبقدر ما كان عزمهم قويا شديدا بقدر ماجاءت الظروف صعبة قاسية مهدرة لصحتهم وطاقتهم وأعمارهم.

لم يكن مايعانيه هؤلاء الأطباء خافيا.. الكل كان يعرفه ويدركه وإن لم يتحرك أحد لتغييره، فظل هؤلاء الأطباء بين مطرقة الواقع المجحف وسندان التجاهل والإصرار على إستمرار الوضع كما هو عليه.

استسلم البعض للقهر، واكتفى آخرون بالشكوى بعضهم البعض تنفيسا عن ضيق محكم لايبدو منه فكاك. وفاض بآخرين الكيل فصرخوا بأصوات عالية مطالبين رفع الظلم وتحسين أحوال الأطباء النواب، بعدما فقدوا الحد الأدنى من المعاملة الآدمية.

مجموعة من الأطباء النواب بقسم النساء والتوليد جامعة طنطا كانت صاحبة هذه المبادرة الشجاعة.. ثمانية أطباء من بينهم الطبيبة رنين جبر والتي أثارت جدلا واسعا على وسائل التواصل الإجتماعى بعدما حكت بالتفصيل عن حجم المعاناة التي يتكبدها الأطباء الذين يعانون من معاملة غير آدمية.. فتفرض عليهم ساعات عمل لمدة 72 ساعة وأحيانا تصل إلى 82 ساعة نوبات متواصلة لايتخللها أية ساعات للراحة والنوم، إضافة إلى إجبارهم على العمل من الخامسة صباحا .. أما الساعات القليلة النادرة المفترض أن ينعموا فيها بالراحة لاتقل قسوة وإرهاقا عن ساعات العمل حيث لامكان مجهزا آمنا مما يضطرهم أحيانا لافتراش الأرض!

ثقافة إذلال ممنهجة هكذا وصفت رنين حياة الأطباء، لم يكن في الأمر مبالغة منها فيكفى اضطرارهم للإبلاغ لمن هو أعلى منهم والإستئذان منه قبل الخلود للنوم أو دخول الحمام أو حتى الخروج لشراء زجاجة مياه!

صرخة رنين وتحركها الإيجابى هي وزملاوها دفع عميد طب طنطا للتدخل وعقد اجتماع عاجل لحل الأزمة!! وإتخاذ القرارات اللازمة التي تضمن مصلحة المنظومة الطبية وتوفير بيئة عمل مناسبة وعادلة للأطباء!

وكأن مايحدث لم يصل بشكل أو بآخر إلى سمعه .. وكأنه تفاجأ بالأمر، ويقينى أن بابه لو كان مفتوحا لهؤلاء الأطباء ماوصلنا إلى تلك الحال التي جعلت من وسائل التواصل الإجتماعى النافذة الأجدر على بث الشكوى والجهر بها!

وحتى لانتهم بالإنحياز لطرف دون آخر وخاصة أن عميد طب طنطا أوصى بسماع كافة الأطراف نؤكد أن معاناة الأطباء النواب ليس بجديدة ولا تقتصر على جامعة طنطا فقط، فالكل يعرف حجم مايعانيه الأطباء في كافة الجامعات.. يكفى أنه بعد أيام قليلة من إستقالة أطباء طنطا حتى انخلعت قلوبنا على طبيبة امتياز أخرى لقت حتفها بعد أيام عمل متواصلة بالقصر العينى .. بالطبع نفى المسؤولون ذلك لكن تظل الشكوك وعلامات الإدانة جلية واضحة خاصة بعدما تحدث الاهل والأقارب عن حجم الضغوط التي تعرضت له الطبيبة الشابة والظروف غير الآدمية التي دفعت ثمنها زهرة شابة مازالت تخطو أولى خطواتها في الحياة.

تحدثوا جميعا عن الحياة غير الآدمية ومنعهم الخجل عن الحديث عن الظروف المادية الصعبة والدخول الضئيلة التى لاتتناسب مع حجم التعب ولا قدر المجهود المضنى ولا الأعباء التي تواجههم في مواصلة دراستهم العليا للحصول على الماجستير والدكتوراة .

هو أمر واقع قاس ومجحف ومرير لم يسلم أطباء المستشفيات الجامعية منه، فالأمر لا يقتصر على جامعة طنطا أو القصر العيني، فأطباء مستشفى الدمرداش أيضا يواجهون نفس الظروف الصعبة، ساعات طويلة تصل لأيام بطولها عمل متواصل بلا نوم أو راحة .. ساعات قليلة للعودة للأهل والحصول على قدر محدود من الراحة.. حياة غير آدمية تدفعهم لليقظة والسهر والعمل بلا كلل، إجبارهم على الإستمرار في العمل رغم شدة الإجهاد وحجم التعب، تدفع بعضهم الظروف الصعبة لتناول مهدئات للنوم ومنشطات للعمل بعدما إختلت ساعتهم البيولوجية وجهازهم العصبى ..

وفوق كل ذلك قواعد ونظم تتغير وفق مصالح أبناء الأطباء وراحتهم ورغباتهم .. فالطب كما هو معروف في سلو بلدنا يورث ولا يدرس ..

المساواة في الظلم عدل، ورفع الظلم واجب، وحماية أرواح وأعصاب ونفسية أطبائنا الشباب ضرورة .. وإذا لم نفعل ذلك فلا نؤلم إلا أنفسنا عندما يضرب بعضهم عرض الحائط كل مايربطه بأرض وطنه مفضلا الهجرة والحياة في غربة ربما تكون قاسية، لكنها على الأقل لن تكون أكثر قسوة من وطن يفتقد فيه إنسانيته وآدميته وكيانه!
----------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

مأساة الأطباء النواب