من تجربة عملية في أمريكا اللاتينية ، والخبرة المكتسبة بتطبيقات ما بعد الحكومات الإستبدادية ، اتضح بكل جلاء في كل تجربة ( إكوادور ، بوليفيا ، البرازيل ، الأرجنتين ، أورجواي )، أن أولئك الذين استفادوا من أوضاع الفساد، تم تعقبهم رغم مرور عشرات السنين، لدرجة أن بعضهم كان قد تجاوز الثمانين، حين وقف خلف القضبان مكسورا مهزوماً، وهو يرجو الشفقة بكهولته، دون أن يجد استجابة، وهكذا بعد سنوات عاشها في نعيم الثروة والسلطة، أصبح فجأة مجردا من كل شئ، حتي شرفه الشخصي ، كي تعاني أسرته من بعده الفقر والعار .
ولا أنسي تجربة عائلة أحد كبار رجال الأعمال والإعلام، وكانت تحتل مكانة إجتماعية مميزة، ويحتفي بها المجتمع الدبلوماسي، بإعتبار أعضائها مفاتيح هامة لأي بوابة مغلقة، فضلاً عما توفره ثرواتهم من إمكانيات رحلات وحفلات وانفتاح ...
لقد خرجت الصحف ذات يوم بعد تولي سلطة ديمقراطية جديدة، تحمل خبر إلقاء القبض علي عدد من أفراد هذه العائلة، التي لم يكن أحد يتشكك في نبل أصلها الممتد إلي المستعمرين الأسبان الاوائل ، فضلا عن احتلال بعضهم لمواقع حاكمة في القضاء والإعلام.
وفي شكل مسلسلات مثيرة، كانت وسائل الإعلام تتابع نشر الفضائح التي ارتكبتها تلك العائلة، وخاصة فيما يتعلق بإهدار المال العام، ولم يمض وقت طويل إلا وصدرت أحكام الإدانة والمصادرة، ولا يمكن أن أنسي ملامح اطفالهم البريئة في قاعات المحاكم، وهم لا يفهمون ماذا يدور حولهم، وأشعر بألم من أجلهم، لأنهم في النهاية سيتحملون وزر ما ارتكبه آباؤهم.
وكان أحدهم علي وجه الخصوص صديقاً شخصياً، يمتلك مع زوجته بعض الإصدارات الصحفية، فضلاً عن قناة تليفزيونية، وقد كان شديد التعاون معي، ويبادر بإحاطتي بالكثير من المعلومات المفيدة، ولم تكن تبدو عليه أي مظاهر للفساد، وقد وجدت من واجبي أن أطلب زيارته، وتم السماح بذلك ضمن اشتراطات خاصة من مكتب المدعي العام .
وفي الغرفة الضيقة سيئة التهوية التي التقيته فيها، وجدت أمامي شخصاً آخر، شاحبا تائها زائغ العينين ، كان يردد من حين لآخر :" es la hora de la cuenta !" ، وترجمتها الحرفية: "جاءت ساعة الحساب" .. وكان يبدو مستسلماً للمصير وكأنه كان يعرفه منذ زمن طويل.
كان ذلك مشروطا بالطبع بتوافر مجموعة من العناصر، أبرزها وجود البناء السليم لمرفق العدالة، وانتشار ثقافة سيادة القانون وعدم الإفلات من العقاب، وبالطبع الفصل الدستوري القاطع بين السلطات، والرقابة الصحية المتبادلة بين سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية .
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق