14 - 08 - 2025

صباحيات | غزة وحل الدولتين والحرب الدعائية في عالم ما بعد الحقيقة

صباحيات | غزة وحل الدولتين والحرب الدعائية في عالم ما بعد الحقيقة

أحدثت ثورة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تغيرات جذرية في عمليات الاتصال الجماهيري وآلياته، لكن أخطر ما فعلته هذه الثورة التي تتطور بسرعة مذهلة، يتصل بفكرة الحقيقة truth أو الوقائع facts نتيجة للتفاعل المكثف ما بين العالم الافتراضي، والعالم الحقيقي أو الواقعي، وهو التفاعل الذي ازداد تعقيداً مع تطور تقنيات الواقع الافتراضي وإساءة استخدامه بغرض التأثير على الجمهور الواسع وتشكيل توجهاته على النحو الذي رأيناه مع استغلال الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى لتمرير أخبار كاذبة وتقارير ملفقة fake news، على نحو أثار انزعاج العديد من الدوائر، في مقدمتها الشركات التي تشرف على هذه المنصات والتي تحركت بسرعة للحد من هذه الممارسات التي تستغلها وتلحق في الوقت نفسه ضررًا بالغًا بمصداقيتها، خصوصاً مع التطور المتسارع في التقنيات نتيجة لثورة الذكاء الاصطناعي وتقنيات الواقع الافتراضي المعزز، الذي عزز القدرة على تلفيق التقارير والأخبار deep fake news، على نحو يقلل من قدرة الأفراد والمؤسسات على التمييز بين الأخبار ذات المصداقية والأخبار الزائفة.

أدت هذه التطورات إلى ظهور ما يعرف بفلسفة "ما بعد الحقيقة" وعالم "ما بعد الحقيقة" في العقد الأخير. كتب جورج أورويل في روايته ذائعة الصيت "1984"، يقول "يتلاشى مفهوم الحقيقة الموضوعية من العالم، وستُخلّد الأكاذيب في التاريخ". واختار لي ماكنتاير هذه العبارة لتكون في تصدير كتابه "ما بعد الحقيقة"، المنشور في عام 2018، ضمن سلسلة كتب معارف أساسية التي يصدرها معهد ماساشوستس. وماكنتاير مؤلف أمريكي يكتب في موضوعات الفلسفة العامة وله العديد من الكتب التي صدرت بعد هذا الكتاب، من أبرزها كتابه بعنوان "التضليل الإعلامي"، صدر في عام 2023 وكتب أخرى يدور معظمها حول فكرة قمع الحقيقة. وقد يكون من المهم إطلاع القارئ العربي على هذه الإصدارات وعلى الاتجاهات الحديثة في الفكر الغربي التي تهتم بموضوع تزييف الحقيقة والواقع، لأهمية مثل هذه الأفكار والكتابات في معركة الوعي، فامتلاك الوعي شرط ضروري للتحرر.

في منشور حديث للإعلامي المصري المقيم في الولايات المتحدة باسم يوسف Bassem Youssef، أشار إلى مشاركته في مدونة صوتية podcast مع مجموعة كبيرة من الشباب الذين لديهم انتشار واسع ينتجون محتوى مؤثر في مجموعات الشباب في سن مبكرة، كانوا أجروا من قبل حوارا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والذي يكشف عن استغلال هذه المجموعات في رحلات دعائية عن إسرائيل، التي تنفق إنفاقًا كبيرًا على المؤثرين العالميين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، منبهاً إلى جانب آخر أكثر خطورة من مسألة قصف الجبهات وغيرها من معارك على شبكات التواصل الاجتماعي لفضح الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، والتي يراها معركة "سهلة"، أما المعركة الأهم هو إفساد خطط إسرائيل واستغلالها لهذه المجموعات في سعيها لكسب تأييد الرأي العام العالمي لوجهة نظرها مما يسهل عليه تقبل ما ترتكبه من جرائم والتشهير بخصومها، مثلما فعلت مع الفيديو الذي نشرته حماس لأحد المخطوفين كي تظهر للرأي العام الإسرائيلي وللعالم كيف أن حرب التجويع التي تشنها إسرائيل على غزة تؤثر على مواطنيها.

توقفت في منشور باسم يوسف عند قوله " الشيء المبهر في الموضوع ده واللي ما كنش حد متخيله من وقت قريب إن إزاي حد ممكن مستقبله يتهدد بان يظهر إسرائيل بشكل إيجابي". ما قاله يشير إلى تحول مهم في الرأي العام الأمريكي والعالمي بسبب تمادي حكومة نتنياهو في جرائمها الوحشية ضد الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية وضد شعوب المنطقة وشعوب العالم، وهو تحول يؤكد أن الحقيقة تنتصر على كل محاولة تزييفها وعلى كل الزيف الذي يبرر للسفاح جرائمه. من قبل كان المستقبل الوظيفي أو السياسي لكل من يجرؤ على انتقاد إسرائيل ودعم الفلسطينيين الوظيفي والمهني مهدد. اليوم الآية تنقلب وعلينا أن ننتبه لذلك كي نفهم هذا السيل من التحليلات التي تتحدث عن خطر حقيقي يُهدد مستقبل إسرائيل. لكن الأهم الكشف عن حقيقة أنه مهما بلغ حجم الانفاق على الدعاية لحجب الحقيقة، فإن الحقيقة أقوى، وأن العقول قد تنتبه والضمائر تصحو من غفوتها، ربما بسبب واقعة تافهة أو بسبب سوء تقدير من الطغاة. ففي رومانيا، ظن رئيسها الطاغية، نيكولاي تشاوشيسكو، أن قتل شاب من الأقلية الغجرية حدث تافه لا يستدعي ثورة عارمة تنتهي بقتله وسحله في شوارع بوخارست وإسقاط حكمه.

من المهم أن نكشف للعالم كيف تعمل الدعاية الكاذبة، لكن من المهم الانتباه إلى أن مثل هذه الدعاية لا تقتصر فقط على المدونات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وإنما تمتد إلى مستويات أعلى في السلطة والتأثير في عقيدتها وآراء القائمين عليها أو ابتزازهم، وهو الأمر الذي يفعله نتنياهو مع زعماء ينتهجون سياسات أو يتخذون مواقف تتعارض مع سياساته أو تفضح جرائمه، والأهم هو ما يتم ترسيخه في أذهان الجمهور العام والمثقف عبر أدوات غير مباشرة مثل السينما أو الدراما أو المقررات التعليمية أو الدراسات الرصينة. ومن المهم أيضًا الانتباه إلى مصادرة النقاش والتفكير النقدي، لأن التفكير النقدي والنقاش آليتين أساسيتين للوصول إلى الحقيقة وكشف الأكاذيب.

الجدل حول "حل الدولتين"

في تقديري الشخصي ومن واقع دراستي لتاريخ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، لا اعتقد أن حل الدولتين حلًا تاريخيًا للصراع، وأن الحل هو الدولة الديمقراطية الواحدة، والذي اقترحته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1974، وهي فكرة أثارت آنذاك انزعاج القيادة الإسرائيلية الحريصة على فكرة يهودية الدولة، والتي كانت تخشى على مستقبل المشروع الصهيوني الذي يتمحور حول هذه الفكرة. لكن ثمة تطورات بدلت المشهد في العقدين الأخيرين تدفع في اتجاه حل الدولة الإسرائيلية الواحدة وقلصت من فرص "حل الدولتين". والأهم في هذا التطور هو بروز نخبة جديدة في السياسة الإسرائيلية قوامها الأحزاب اليمينية المتطرفة والمستوطنين لم تعد تخشى الأغلبية الفلسطينية وأصبحت مستعدة لتبني خيارات مثل ضم الضفة الغربية، أو احتلال غزة.

الأمر الذي لا تنتبه إليه هذه النخبة الجديدة، على ما يبدو، هو تكلفة تلك الاختيارات التي تستدعي اللجوء إلى مستويات من القوة المفرطة والعنف والتي من المستبعد في ظل التطورات الجارية على مستوى الرأي العام العالمي، والضرر الذي قد يلحق بسمعة إسرائيل وصورتها في العالم، وهي مسألة تصب في صالح الحقوق الفلسطينية وتفتح أعين الرأي العام العالمي والجمهور الواسع على جرائم إسرائيل وسياساتها العدوانية. المهم أن نشير هنا إلى أن هذا التحول بدأ يطول أيضاً اليهود في الولايات المتحدة وفي أوروبا على نحو يذكرنا بالتحولات التي حدثت نتيجة لانتفاضة عام 1987، والتي أحدثت تغيرات كبيرة لصالح القضية الفلسطينية التي بات العالم يدرك أنه قضية شعب له حقوق يسعى وراءها وليست قضية إنسانية كقضية لاجئين. لكن ثمة ضرورة لإعادة التفكير في ضرورة حل الدولتين في اللحظة الراهنة على الأقل، خصوصا مع تزايد أعداد الحكومات الأوروبية التي بدأت تتحرك للاعتراف بدولة فلسطينية، رداً على استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وهو تحرك على قدر كبير من الأهمية والخطورة على الرغم من رمزية هذا الاعتراف، لأنها تفسد الخطط الإسرائيلية التي تتجاوز الحرب، خصوصاً فيما يخص ملف التهجير.

هنا، لنا وقفة مع ما كتبه جدعون ليفي في صحيفة "ها ارتس"، وهو صحفي يحظى باحترام كبير بين الفلسطينيين في الداخل والخارج وبين النشطاء في حركة BDS العالمية التي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وهو ما تشير إليه الأحرف الإنجليزية التي تختصر المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات. وهذه الآلية التي أدى تبنيها على نطاق عالمي وفي مجلس الأمن الدولي إلى الضغط على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وإجباره على التوصل إلى اتفاقية مع المؤتمر الوطني الأفريقي أدت إلى إنهائه.

اتفق مع ليفي كما يتفق آخرون في أن هذا هو نهاية المسار بالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولكن بشرط الحفاظ على وجود الشعب الفلسطيني وقضيته، والانتباه إلى أن السياسات الإسرائيلية الراهنة تمضي في طريق تصفية هذا الوجود عبر سياسات ممنهجة للتهجير والترحيل القسري أو العنيف أو الطوعي، وتصفية القضية من خلال إبرام اتفاقيات مع الدول العربية على لا تربط بين حل القضية الفلسطينية وبين تطبيع العلاقات مع الدول العربية، وتسعى إلى تخليق مصالح ومشروعات ستفضي حتما إلى ابتلاع فلسطين وأرضها في مشاريع اقتصادية، إسرائيل هي الرابح الأكبر فيها، ناهيك عما في هذه المشاريع من جور على حقوق الشعوب العربية ونهب لثرواتها ومقدراتها.

لكني اختلف مع ليفي في أهمية هذه الخطوة وجدواها ولا أرى أنها مكافأة على جرائمها، خصوصاً مع ملاحظة أن عملية المقاطعة وفرضت عقوبات جزئية بدأت وتمضي ككرة الثلج لكنها لم تكتسب بعد الزخم والقوة التي تجبر الحكومات على تعديل مواقفها والمضي قدماً في خطوات أبعد تصل إلى حد فرض عقوبات مؤثرة على إسرائيل وقادتها، كما أن تراجع التيار العام اليهودي في الداخل الذي يقبل التعايش مع الفلسطينيين في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر يؤثر على فاعلية هذا الحل في الداخل في الوقت الراهن. أدعو ليفي وأدعو كثير من تيار السلام الذي تبلور منذ عام 1979، وفي أعقاب اتفاقيات أوسلو إلى الاهتمام بدراسة التحول الذي حدث وأصاب هذا التيار بما يشبه السكتة القلبية والدماغية. إن كثيرا من رموز هذا التيار، لاسيما من المثقفين والأكاديميين، سواء الذين يعلنون مواقفهم بصراحة مثل إيلان بابيه وغيره والذين اختاروا في مواجهة حملة القمع التي يتعرضون لها من اليمين المتطرف، هاجروا إلى أمريكا الشمالية أو إلى دول أوروبية، هناك صامدون في الداخل لكن أصواتهم غير مسموعة للعالم، وهناك آخرون رحلوا عن الحياة. ثمة مؤشرات على صحوة لهذا التيار ورفده بشخصيات من الأجيال الجديدة، التي ظهرت في المظاهرات المطالبة بإنهاء الحرب في غزة في الداخل تستدعي وقفة لبحث كيف يمكن الاستفادة من هذا التحول في الداخل وفي الخارج لتغيير المعادلة السياسية في إسرائيل لكبح جماح خطة الضم والتهجير، والتي يتحمل الفلسطينيون فيها أفدح الأثمان.

:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

بقلم/ أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | طريق واحد لوقف حرب الإبادة في غزة