في شدةِ الزَمْهَرير، جلس ينتظرُ باحثا، كان قد دُعي لمناقشة رسالته للحصول علي درجة الماجستير، ورأفة بالباحث، وخوفا من أن يضلّ طريقه لمسكن الشيخ، خرج العملاق تلميذُ الدؤلي، والفراهيدي، وسيبويه والكسائي، وابن جني، وغيرهم من النحويين القُدامى، وناظرُ مدرستي البصرة و الكوفة من بيته السادسة صباحا للقاء الباحث في موعد كانا قد اتفقا عليه، وشاءت ظروفُ الطريق أن يتأخر الباحثُ عنه ساعة كاملة، ظلّ خلالها العلامة د. أحمد محمد عبد الدايم، يُعاني قسوة البرد ومرارة الانتظار، وكلّما حدثته نفسُه بالرجوع لبيته، والاعتذار عن عدم المناقشة، أثنته أبوتُه وحرصُه علي مُستقبَل الطالب عن هذا القرار .
وصل الباحثُ وأهله حيث ينتظر الشيخ الجليل، فوجدوه يقاوم شدة البرد ببالطو أسودَ مصنوع من الجوخ، وكوفية شدَّها حول رقبته ورأسه، فأخفتْ كثيرا من غضب وجهه، وهو ما جعل الكلَّ يُقدم رِجلا، ويؤخرُ أخرى في طريق الذهاب إليه، والاعتذار له، حتى مُشرِف الباحث نفسه، لم يقوَ علي الذهاب لعبد الدايم مُعتذرا .
تطوعتُ على الفور لتلك المهمة التي أحجم عنها الكلُّ، إذ كان نقلُ جبلٍ من مكانه أسهل على الجميع منها .
وقفتُ أمام العلامة عبد الدايم وقد جفّ اللعاب بفمي، وأنا أسوق له عذر زحمة الطريق، وأطلب منه الصفح، وقد وطنتُ نفسي أن أسمع كلمات الزجر؛ اجترارا لشدته وحزمه بقاعة المحاضرة منذ سنوات، ولكن كلُّ هذا يهون؛ حرصا على مستقبل صديقي .
كان ردُّ فعل شيخنا، مُخيّبا كلّ الظنون، إذ ألفيتني أمام شيخٍ حانٍ، ربتَ الزمان علي كتفيه فزاده حلما وأناة، فلم يزد علي قوله: ( سامحكم الله كاد البردُ يقتلني)، فهرعنا جميعا نُقبلُ يده ورأسه، ونسترضيه، فيأبى ذلك بتواضع العلماء !
وسريعا استرجعتُ أيام أن جمعتنا بذلك الجبلِ الأشم قاعةُ الدرس، زمن شبابه وفتوته، فكنا نأنسُ فيه متانةَ العلم، وفصاحةَ اللسان، واسترسال الشواهد، ورجاحة العقل، إضافة إلى ذلك كله الصرامةُ والحزم، اللذان فرضا علي قاعة درسه الهدوء، وألزما الطلاب بالإنصات دون أن يُسمع من واحد منهم همس، أو تصدر عنه حركة؛ ليتدفق من فمّ الشيخ علمٌ كماء منهمر، يتسلل إلي عقول الطلاب، فيروي ظمأهم للمعرفة، ويزيد حصيلتهم النحوية، التي تحمي لسانهم من اللحن والعوج .
كان العلّامةُ أحمد عبد الدايم، وهو أحدُ أفراد دفعة دار العلوم الأفذاذ، التي ضمّت حماسةَ، وعبد الرحمن سالم، والجليند، وحسن البنداري، ودرويش وغيرهم، حجةً في المُناظرة، وآية في التقعيد، وأعجوبة في الشرح والتحليل، وليس أدلّ علي ذلك، من كتابه الساحر (فن الإعراب)، والذي إن كان صغيرا في حجمه إلا أنه كبيرٌ في فائدته، وحقا :
تري الشَحْرُورَ أكثرها بُيُوضا وأمُّ الصقر مِقلاةٌ نزور .
حرص العلّامةُ عبد الدايم علي أن يكون هذا الكتاب تطبيقا عمليا لعلم النحو، فاهتم بإعراب أساليب، وتركيباتٍ يَكثُر استعمالُها، وهو ما ساعد ويساعد الطلاب في تكوين وترسيخ الملكة الإعرابية .
وكانت مُؤلفات العلامة عبد الدايم التي ضمت: (الصرف الكافي، والصرف الوافي، وفن الإملاء والترقيم، وفن الإعراب، ومعجم الأبنية العربية وغيرها)، تمتازُ إلي جانب الشمولية بالتركيز، فكانت أبعدَ ما تكون عن التكرار المُملّ، أو الاختصار المُخلّ، حيث جاءت كلّ عبارة في مكانها، ولا يمكن بحال حذفها أو استبدالها بأخري، وهو ما جعلها مرجعَا لأساتذة الدار قبل الطلاب !
لم تَحُل مادةُ النحو الصلدة بين العلَّامة عبد الدايم وفن الشعر، فكان شاعرا مُرهف الحس، عُرف شعره بالسهل البسيط، تظنُ أنك تستطيع مجاراته، وما إن تشرع في ذلك حتي تغوص في حقل ألغام، لا تقوى على الاستمرار أو العودةة.
حنوُّ العلامة عبد الدايم علي الباحث، الذي جاء بعد سنواتٍ طوالٍ من تدريسه لنا بدار العلوم، وحزمُه أيام شبابه وفتوته، وانتصاره دائما للحق أثبتا كيف كان هذا الرجلُ إنسانا في كلّ مراحله، وكيف أنه اعتاد أن يجعل لكل حدثٍ حديثا، ولكل مقامٍ مقالا .
عمل د. أحمد عبد الدايم ومازال في محراب دار العلوم أستاذا للنحو والصرف والعروض، وعمل وكيلا للكلية، واختير لوضع مناهج اللغة العربية بالمدارس، وشارك كذلك - حفظه الله - في المؤتمرات العلمية المهتمة بأمر اللغة.
رحلةٌ مليئةٌ بالعطاء والصبر لعالِمٍ من زمن دار العلوم الجميل .
نسأل الله أن يحفظه، ويبارك له في عمله .
…………
بقلم / صبري الموجي