15 - 08 - 2025

إيمان عبد الرحيم لـ"المشهد": أكتب لأتخلص من حمل الكلام بين أضلعي

إيمان عبد الرحيم لـ

بمناسبة صدور كتابها "مقطوعات على الحب والخوف"

إيمان عبد الرحيم لـ"المشهد": أكتب لأتخلص من حمل الكلام بينأضلعي

قصصي هي نَبَرات مترددة لروحٍ تستعيد صوتها بكتابة غاضبة 

"مقطوعات على الحب والخوف" ليس كتاباً بالمعنى التقليدي، ليس تجميعاً لقصص أو نصوص متفرقة، بل أقرب ما يكون إلى شرفة حجرية تطل على حقل مهجور في داخلي. هو كتاب كُتبَ بينما كنت أجلس هناك، على حافة هذه الشرفة. 

هكذا تقول الكاتبة إيمان عبد الرحيم، ردا على سؤال طرحتُه عليها عقب قراءتي لكتابها القصصي "مقطوعات على الحب والخوف"، الصادر حديثا عن دار "الكتب خان" في القاهرة. وتقول الكاتبة أيضا في  حواري الخاص معها لجريدة "المشهد": "لا أملك إلا أن أطلّ على ما فات، ولا أجرؤ على القفز. لم أسعَ إلى ترتيبٍ منطقيّ، ولا إلى حكاية كاملة تُرضي شهية السرد المعتادة. ما كنت أبحث عنه هو النغمة، النبرة، الارتعاش الذي يسبق البكاء أو الضحك أو الانهيار. كنت أدوّن شعورا أكثر مما أكتب قصة، وألتقط ظلًا أكثر مما ألاحق شمسًا. الكتاب هو أنا، لكنه أيضًا ليس أنا. هو الأنا التي حاولتُ إنقاذها من الجنون، عبر محاولات للقبض على معنى في خضم العدم. لا أحب أن أُجمِّل الكلمة، ولا أن أضع فوق الجراح شاشًا نظيفًا. "مقطوعات على الحب والخوف" هو سجلّ داخلي، فوضوي أحيانًا، مرتبك غالبًا، لكنه صادق حدّ الألم. كتبتُه كمن يكتب وصيته، لا ليخلِّد شيئًا، بل ليتخفّف".

* ليتك تحدثينا عن دوافعك لكتابة قصص "مقطوعات على الحب والخوف"؟

- القصص التسعة عشر، أو المقطوعات إن صحّ التعبير، ليست حكايات قصيرة بقدر ما هي ومضات، نَبَرات مترددة لروحٍ كادت تفقد صوتها، ثم استعادته عبر الغضب، البوح، والكتابة. لم أكتب "النشور" مثلًا لأحكي قصة رجل ينهض من الموت، بل كتبتها لأفهم كيف يمكن للموت أن يتحوّل إلى رحلة نستعد لها. ولم أكتب "بابا" فقط لأن أبي مات مقتولًا في الغربة، بل لأنني لم أجد طريقة لأسترده وأكلمه، سوى الكتابة. أكتب لأن الأشياء لا تُقال. أو تُقال، لكن لا تُسمَع. ولأنني تعبت من حمل الكلام الثقيل في أضلعي، فكان لا بد أن ينسكب على الورق. دوافع كتابتي لهذا الكتاب لا يمكن اختزالها في سبب واحد. بعضها وجودي خالص، كأن أصرخ في وجه الفراغ: "أنا هنا!"، وبعضها نابع من حاجة قديمة لأن يراني أحد، أن يُقال عني: هذه لم تكن شبحًا، كانت إنسانًا. وبعضها، كما في قصة "رسالة" أو "مدينة النخيل"، هو محاولة لفهم ما لا يُفهم، لفكّ شيفرات الحياة المعقدة التي عشتها. نعم، للأحداث الذاتية ثقل كبير في كتابتي، لكنني لا أكتفي بها. 

*هل تنسخين حياتك الواقعية في قصصك؟

-أنا لا أنسخ حياتي في الكتابة، بل أقطّرها. أستخرج منها جوهرها وأعيد تركيبه، مثلما يفعل الحالم حين يحكي حلمه ويخترع له نهايات مختلفة. ليست الكتابة عندي تسجيلًا، بل تقويضًا. لا أنقل الواقع كما هو، بل أفتح بطنه وأقلب أحشاءه، أبحث فيه عن مجاز، عن صورة، عن حلم، عن كابوس لا يحكى. صحيح أن تجربتي الشخصية حاضرة في بعض النصوص، لكنني لا أقدّم نفسي كضحية. أكره هذا الدور. أحاول، بكل ما أستطيع، أن أكون الفاعلة في سرديتي. ولذلك أكتب كثيرًا من وجهات نظر متعدّدة، أترك شخصياتي تتكلم عني أحيانًا، أو بالنيابة عني، دون أن تدري. كتبت عن الجنون وعن الفقد والموت والحب والخوف لأني عاشرتهم جميعا. أما عن أصداء كتابتي، وأنا التي أعيش في الغرب، فلا أنكر أنها تصل ببطء. ليس لأن اللغة تعيقها – رغم أنني أكتب بالعربية – بل لأنني أكتب من مكان داخلي جدًا، وهذا النوع من النصوص يحتاج قارئًا لا يمرّ مرور العابرين، بل يجلس على ذات الشرفة ويطلّ معي على الخراب. ومع ذلك، يصلني من حين لآخر صدى يشبه الطبطبة: قارئة تقول لي إن قصة "اضحك تضحك لي الدنيا" جعلتها تبكي، أو شاب يخبرني أن "ليالِ الشاش الأسود" ذكّرته بجدته أيام الطفولة. 

*هذه الرسائل، القليلة، الصامتة، إلى أي مدى تعكس تجربة شخصية؟

- التجربة الشخصية معين لا ينضب للكاتب، لكنها ليست المعين الوحيد. أنا أكتب أيضًا مما أقرأ، مما أراه، من مشهد عابر في الحافلة، من قطة تتمدد على الرصيف، من وردة ذابلة بجانب كوب شاي. لكن يبقى أن ما يُحرّكني دومًا هو ذلك التماس بين الداخل والخارج، بين الذاتي والعالمي. الكتابة عندي لا تخرج من فراغ، بل من تصادم: تصادم الذاكرة مع الحاضر، القلب مع الرأس، اللغة مع العجز. أعمالي السابقة أيضًا لم تكن لتبرئة الذات ولا لمراوغتها. سواء في "الحجرات وقصص أخرى"، أو في نصوص متفرقة نُشرت هنا وهناك. 

*ما هي الدوافع الأولية لكتابة هذه المجموعة؟ 

- كانت الدوافع مزدوجة: وجودية في بعض النصوص، شخصانية في أخرى، لكنني دائمًا ما كنت حريصة على ألا تكون الكتابة فقط تفريغًا، بل بناءً أيضًا. لا أحب الكتابة التي تفضح صاحبها فقط، بل تلك التي تعري الواقع أيضًا.

*ألا تروقك الكتابة الفنية، المجردة، التي تسعى إلى الجمال الخالص؟

- نعم، تروق لي. لكنني لا أؤمن بأنها بريئة. حتى حين أكتب نصًا يتوه في المجاز، كـ"فراشة التنين وحيد القرن"، أو نصًا يبدو غرائبيًا كـ"الخرطوم"، أكون دائمًا مشتبكة بما هو حقيقي فيّ، فينا. فالفن عندي لا يُولد في الفراغ، بل في قبو الوعي والمجاز ليس للزينة، بل للخلاص. في نهاية المطاف، أكتب لأن الكتابة تعيد ترتيب حطامي. لأنها تخلق احتمالًا آخر للحياة. لأنني حين أكتب، أكون ناجية. لا أكون ضحية، بل شاهدة على الألم والخوف، وعلى الحب أيضًا، ذاك الذي يتسلل بين السطور، مثل شمس شتوية لا تدفئ، لكنها تنير قليلاً. أكتب "مقطوعات على الحب والخوف"، وأكتب ما بعده، لأنني أخاف من النسيان، ومن أن أموت دون أن أقول كل ما في فمي. أكتب لأنني لم أعد أحتمل الخوف، ولأني أحب، ولأنني أريد أن أقول للذين أحببتهم: لقد كتبتكم، فلا تخافوا من الزوال. وأخيرًا، أكتب لأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أحد أن يسلبه مني. لا المرض، لا الموت، لا المنفى، لا اللغة الثانية، لا الذكريات الكاسحة، لا الخوف، لا الحب. هي مكاني الأخير.