08 - 08 - 2025

تيك توك" في قفص الاتهام: عن الحسبة والطبقة والسلطوية الأخلاقية

تيك توك

بدأت الحكاية بفيديو نشرته سيدة تُدعى مروة مبارك، شخصية غير معروفة، بدت في مقطع قصير تطالب فيه صراحة بالقبض على عدد من صناع المحتوى عبر تطبيق تيك توك، بدعوى إساءتهم لقيم الأسرة المصرية. رغم أن السيدة ليست من الشخصيات العامة، بل وأُثيرت شكوك حول حالتها النفسية، إلا أن الفيديو أشعل حملة واسعة من البلاغات، تولى تقديمها عدد من المحامين ضد صناع محتوى، استجابت لها الأجهزة الأمنية بسرعة لافتة.

وخلال السنوات الخمس الأخيرة تشن الجهات الأمنية هجماتها على صانعي المحتوى خصوصا على الموقع الأكثر شعبية "التيك توك" تخلل تلك التهم السالفة الذكر تهم مثل الاتجار بالبشر وحتى غسيل الأموال وهو الاتهام الأبرز في حالة الهجمة الأخيرة على مجموعة منهم.

من جانب آخر وضمن الحملات الأمنية المتصاعدة ضد سلوكيات يُنظر إليها على أنها خادشة للقيم والأخلاق، تتواصل الجهات الأمنية التحقيقات المكثفة حول اتهامات بغسل الأموال طُرحت ضد عدد من مشاهير منصة تيك توك، من بينهم «سوزي الأردنية»، "مداهم"، و"شاكر محظور"، و"أم سجدة"، و"أم مكة"، و"عليا القمري". 

لكن ما هو غسيل الأموال؟ وفقًا للتعريف القانوني الوارد في قانون مكافحة غسل الأموال رقم 80 لسنة 2002، هي عملية تحويل الأموال الناتجة عن أنشطة غير قانونية – مثل الفساد أو المخدرات أو التهرب الضريبي – إلى أموال تبدو مشروعة، عبر سلسلة من العمليات المالية المعقدة تشمل الإيداع والتمويه ثم الاستفادة 

أما العقوبة في مصر تتراوح ما بين السجن من ثلاث إلى سبع سنوات، مع احتمال فرض غرامات تعادل الأموال المغسولة ومصادرتها، بالإضافة إلى إيقاف أنشطة أو إلغاء تراخيص الكيانات المرتبطة .

في سياق الاتهامات، أعلنت جهات التحقيقات عن ضبط مجوهرات، تحويلات مالية، وأسلحة ومخدرات بحوزة بعض المتهمين، لكن في المقابل، لا تزال الحقائق تثبت أن تحويل الأموال لهدايا عبر تيك توك موثق عبر المنصة نفسها، والهوية المالية لنسبة كبيرة من هذه الهدايا معلنة، مما يجعل الاتهام بأنه غسل أموال – دون إثبات عنصر النية أو إخفاء المصدر – يستدعي مراجعة دقيقة لمضمون هذه التهم.

أحد أبرز المتهمين، "مداهم"، صوّر موقفه بصراحة بالرفض وهدّد بكشف حساباته البنكية للرد على التهم، وقال إن الغالبية العظمى من الذين يغسلون أموالهم هم مجهولون الهوية وأنه عرض عليه أربع مرات ولم يتلق أي فرصة لأن يتعامل معهم، مؤكداً أن سجله الرقمي والمالي نظيف.

في المقابل، كشف التحقيق أنهم قد يستخدمون جولات اللعبة داخل "تيك توك" – مثل مسابقات أو تحديات تُرسل فيها هدايا ذات قيم مالية افتراضية عالية – كواجهة لغسل الأموال، من خلال استغلال ضعف التتبع المالي لهذه التحويلات، خاصّة إذا تم التعامل مع العملة الافتراضية بعيدًا عن آليات التقرير الضريبي أو المنصة الرسمية .

بناءً على هذه المعطيات، لا يمكن حصر التهم في كونها صحيحة قانونيًا ما لم يُثبت وجود جريمة حقيقية تندرج تحت أركان غسل الأموال (وجود مال غير مشروع، نية الإخفاء، استخدام قنوات معقدة). وإذا ثبت أن معظم الأموال قادمة من دعم المتابعين أو محتوى معتاد عليه، ولم تتورط الشبكة بوضوح في أنشطة إجرامية – عندها فقط يكون الادعاء مبررًا قانونيًا، وإلا فإنه خطر يشوب حملات التضييق على منصّات التعبير والاقتصاد الرقمي.

الحسبة الطبقية.. من يدفع الثمن؟

عادة ما يشعل نار تلك النوع من القضايا المثيرة للجدل مجموعة من المحاميين غالبا ما يكون ذلك بهدف الشهرة، وهو ما يعرف بدعوات الحسبة.

ودعوى الحسبة هي دعوى قضائية يرفعها شخص (أو في القانون المصري، النيابة العامة) لحماية الصالح العام، سواء كان ذلك يتعلق بالأخلاق العامة أو النظام العام أو المعاملات التجارية.

وفي دعوى الحسبة يقدم الشخص الذي يرغب في رفع الدعوى بلاغاً إلى النيابة العامة المختصة، مع توضيح أسباب البلاغ والمستندات المؤيدةبعدها تتولى النيابة العامة التحقيق في البلاغ، ثم تقرر ما إذا كانت سترفع الدعوى أمام المحكمة الابتدائية المختصة أو ستحفظ البلاغ أما إذا قررت النيابة العامة رفع الدعوى، فإنها تصبح هي المدعية فيها.

إعادة إنتاج رقمية لظاهرة محامي الحسبة هو توصيف اختاره المحامي الحقوقي محمد حمادة لتلك الوقائع معلقا: "يُفتح الباب أمام المواطنين ليتحولوا إلى رقابة أخلاقية ضد بعضهم البعض، والكارثة أن الدولة تتعامل مع هذه البلاغات العشوائية بجدية مقلقة، خاصة حين يكون المستهدفون من طبقات اجتماعية مهمشة."

وفي حالة صانعي المحتوى فإن للطبقية أيضا دور في تلك القضايا حيث تشير وقائع القبض الأخيرة إلى تركّز الاستهداف على صانعي المحتوى المنتمين إلى الطبقات الأفقر، أو المهمشة اجتماعيًا، مثل سوزي الأردنية، وأم سجدة، وأم وام سجدة، ممن قدمن محتوى ترفيهي منزلي ساخر لا يخلو من التهكم أو المبالغة، لكن من دون تحريض على عنف أو تحرش أو فحش مباشر.

تقول الناشطة النسوية إلهام عيداروس: "المشكلة ليست في المحتوى، بل فيمن يقدمه. الدولة لا تقبل أن يتصدر المشهد صُنّاع محتوى من خلفيات فقيرة، لأنهم لا يتناسبون مع الصورة المتخيلة للمواطن المثالي."

وتضيف: "الذوق العام مسألة يُفترض أن تحكمها أذواق الناس، لا النيابة العامة. ما يحدث هو توظيف قانوني وأمني لمنظومة أخلاقية غير معرفّة قانونيًا، لكنها تخدم نمط السيطرة على التعبير."

القوانين المطاطية: الطريق السهل للسجن

منذ عام 2020، تشهد مصر موجة متصاعدة من الملاحقات الأمنية والقضائية بحق صانعي المحتوى الرقمي، خصوصًا النساء، وذلك باستخدام مواد قانونية وُصفت بأنها مطاطة وغامضة، تتيح مساحة واسعة من التأويل، وتُستخدم لتجريم أفعال لا يجرّمها القانون صراحة. في قلب هذه الحملات، تكررت اتهامات مثل "التحريض على الفسق"، و"التعدي على قيم الأسرة المصرية"، وهي عبارات فضفاضة يصعب تحديد معناها القانوني بدقة، ما يمنح جهات الضبط مساحة واسعة للتقدير الشخصي.

المحامي ياسر سعد يوضح هذا الإشكال قائلًا: "لدينا ترسانة قانونية تضم قوانين مثل قانون مكافحة الدعارة رقم 10 لسنة 1961، وقانون العقوبات، وقانون الجريمة الإلكترونية رقم 175 لسنة 2018، وكلها تحتوي على نصوص لا تحدد الفعل المجرَّم بدقة، بل تعتمد على أوصاف إنشائية تُجرّم الذوق أو النوايا أو الانطباعات العامة". ويضيف: "المشكلة لا تتوقف عند النصوص، بل تمتد إلى التطبيق الذي يتجاهل القواعد القضائية المستقرة، مثل ضرورة وجود ضرر فعلي، أو عنصر التكرار الذي اشترطته محكمة النقض لإثبات نية الفسق".

ما يُطلق عليه "القيم الأسرية" لا يحمل تعريفًا قانونيًا جامعًا، بل يختلف باختلاف البيئات والثقافات والطبقات، ما يحول هذه النصوص إلى أدوات يمكن تكييفها حسب السياق السياسي أو الاجتماعي أو حتى المزاج العام. ويلاحظ مراقبون أن هذه الاتهامات غالبًا ما تُوجه لصانعات المحتوى من الطبقة العاملة أو المتوسطة، ممن يظهرن في فيديوهات تُعبّر عن أنماط معيشية مختلفة عما يُروّج له رسميًا كـ"الصورة النموذجية" للمرأة المصرية، وهو ما يكشف عن جانب طبقي واضح في هذه الحملات.

من جهة أخرى، يشير خبراء القانون إلى أن مواد "التحريض على الفسق" في قانون مكافحة الدعارة تعود إلى ستينيات القرن الماضي، وهي لا تتناسب مع التحولات المجتمعية والتكنولوجية التي طرأت خلال العقود الأخيرة. كما أن قانون الجريمة الإلكترونية، الذي شُرّع عام 2018 لمكافحة الجرائم السيبرانية، أصبح يُستخدم في ملاحقة المحتوى الشخصي والتعبيري بدلًا من استخدامه في ردع الجرائم التقنية المعقدة كما كان مقررًا له.

في ضوء ذلك، تبرز الحاجة المُلحّة لإعادة النظر في هذه النصوص القانونية، وتقييد استخدامها بما يتوافق مع معايير العدالة والحرية الشخصية والدستور المصري ذاته، الذي يكفل حرية التعبير والخصوصية. ومع استمرار هذه الملاحقات، تتصاعد الأصوات الحقوقية محذّرة من اتساع رقعة الرقابة المجتمعية الرسمية وغير الرسمية، بما يهدد بنية المجتمع التعددي ويقوّض الحق في التعبير والاختلاف.

بيان المبادرة المصرية: اتهامات أخلاقية وانتقائية بطابع طبقي

المجتمع المدني طالما تداخل مع هذه القضية بطبيعة الحال لأكثر من مرة في هذا الصدد أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بيانًا شديد اللهجة، طالبت فيه وزارة الداخلية والنيابة العامة بالتوقف عن ملاحقة صناع المحتوى على الإنترنت، معتبرة أن الاتهامات مثل "التعدي على قيم الأسرة المصرية" هي عناوين مبهمة تُستخدم لفرض وصاية أخلاقية وانتقائية ذات طابع طبقي وجندري.

جاء في البيان: "خلال الأيام الماضية ألقت قوات الأمن القبض على سبعة على الأقل من صناع المحتوى، بينهم طفلة دون 18 عامًا، وتلقت النيابة بلاغات من 32 محاميًا ضد عشرة من صناع المحتوى، ثمانية منهم من النساء."

البيان ربط الحملة الأخيرة بمناخ تحريضي بدأ بادعاءات من إحدى مستخدمات تيك توك بوجود شبكة لتجارة الأعضاء تقودها نساء على المنصة، رغم غياب الأدلة. ورغم ذلك، شنت الأجهزة الأمنية حملة توقيف واسعة.

وأشار البيان إلى أن هذه الحملة ليست سوى ذروة لمسار بدأ منذ عام 2020 ضد فئات بعينها، توسع لاحقًا ليشمل المثليين وأصحاب الآراء الدينية المختلفة، وحتى الأطفال. تم ذلك باستخدام المادة 25 من قانون جرائم تقنية المعلومات، لتتحول إلى أداة أساسية لقمع التعبير.

كما وثقت المبادرة أكثر من 151 شخصًا أُحيلوا للقضاء في أكثر من 109 قضية مرتبطة بتهمة التعدي على قيم الأسرة، أغلبهم من خلفيات اجتماعية بسيطة. وأكدت أن الرقم الحقيقي أكبر بكثير.

البيان يحذر من أن هذا النمط يمثل مشروعًا سلطويًا لضبط المجال العام وصياغة المواطن بمواصفات أحادية: شكل محدد، انتماء طبقي معين، سلوك خاضع للوصاية.

"لا يمكن قراءة دور قيم الأسرة كمجرد دفاع عن الأخلاق، بل كسلاح في مشروع سياسي للهيمنة الكاملة على المجال العام،" تقول المبادرة.

وأكدت المبادرة أن النيابة العامة نفسها سعت منذ 2020 إلى لعب دور رقابي مجتمعي، حين دعت المواطنين لتقديم بلاغات بشأن المحتوى الرقمي الذي يرونه غير لائق. وهو ما فتح الباب لتكوين دوائر من المحامين المتفرغين لملاحقة صانعي المحتوى، وتحولت الدولة إلى سلطة أخلاقية مطلقة.

التيك توك: من الرقص إلى المقاومة

على الجانب الآخر للنهر، وحول التطبيق نفسه، فقد جاءت بدايات تيك توك كشكل من الترفيه السريع، قائمة على فيديوهات الرقص والمقالب الساخرة، باتت في السنوات الأخيرة أكثر تعقيدًا وإثارةً. لم يعد مجرد منصة للتسلية، بل تحوّل إلى فضاء فعّال لتشكيل الرأي العام وللتعبير السياسي والاجتماعي، كما صار أداة يستخدمها الشباب والمهمشون لتوثيق الانتهاكات، والحشد للقضايا العادلة، وفضح ما يُمارس من ظلم.

وقد برز هذا التحول بوضوح خلال هبة القدس وأحداث حي الشيخ جراح عام 2021، حيث استخدم الشباب الفلسطيني تيك توك لتوثيق اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي، ونقل تفاصيل ما يحدث لحظة بلحظة، مما جعل القضية تتصدر اهتمام الملايين حول العالم. ظهرت مقاطع قصيرة مؤثرة توثق عمليات الاعتقال والاعتداء والتهجير، ما ساهم في فضح الممارسات أمام جمهور لم تكن تصل إليه هذه الصورة من قبل.

دراسات حديثة أكدت أن التطبيق ساهم في خلق ما يُشبه الجماهير المتفاعلة، حيث تبنّى المستخدمون مقاطع معينة، وأعادوا نشرها وتكرارها، مما أنتج موجة تضامن واسعة. كما أظهرت أبحاث أُجريت على محتوى تيك توك خلال حملات التضامن مع الفلسطينيين، أن جمهور المنصة كان أكثر ميلاً للنقاش والتفكير النقدي من مجرد عرض صور العنف أو الاحتجاج.

وقد شعرت إسرائيل بخطورة هذا التأثير، إلى درجة دفعت وزير الدفاع إلى عقد اجتماعات مع إدارة تيك توك، مطالبًا بحذف المحتوى الفلسطيني، ووقف ما وصفه بـ"التحريض". وبالفعل، تم إغلاق حسابات عدد من الصحفيين والمؤسسات الفلسطينية. ومع ذلك، ظل التطبيق منصة مفتوحة نسبيًا، خاصة بالنسبة للفئات التي لا تجد مكانًا لها في وسائل الإعلام التقليدية، مثل النساء، والمجموعات المهمشة، والنشطاء من خلفيات متعددة.

وفي ظل حرب الابادة على قطاع غزة، استخدم كثير من الشباب تيك توك لتوثيق حياتهم اليومية تحت القصف، ليس فقط لتسجيل الألم، بل أيضًا لتعزيز التضامن العالمي. لجأ بعضهم إلى دمج رسائلهم الإنسانية ضمن مقاطع تبدو ترفيهية في ظاهرها، من أجل تجاوز القيود التي تفرضها سياسات العرض والانتشار داخل التطبيق، وهو ما وصفته تقارير صحفية بأنه "ابتكار مقاوم" نجح في تجاوز الرقابة دون أن يفقد صدقه وتأثيره.

بهذا المعنى، لم يعد تيك توك مجرد مساحة للهروب أو التسلية، بل صار أداة للمقاومة، وساحة للتعبير، ومنصة تعيد تعريف دور المحتوى البصري في معارك الحرية والعدالة، مهما كانت محاولات إسكات الأصوات أو طمس الحقيقة.

كل هذه الأدلة والدراسات تعكس أن تيك توك لم يعد مجرد رفاهية رقمية بل فضاء سياسي بصري، يمكّن الشباب والمهمشين من إعادة تشكيل السرد، مقارعة الروايات الرسمية، والظهور بوصفه منصة مقاومة، رغم كل التضييق والرقابة.