من مدرس بسيط لمادة الرياضيات، إلى ملياردير يمتلك طائرات خاصة ويخوت فارهة وقصورًا وجزيرة نائية في الكاريبي.
هكذا يمكن اختصار الصعود المريب لجيفري إبستين، الرجل الذي تحوّل إلى أيقونة للغموض والفضائح في أمريكا، قبل أن تنتهي رحلته فجأة خلف قضبان السجن… ومشنوقًا في زنزانته.
البدايات الغامضة
وُلد جيفري إبستين لعائلة يهودية بسيطة في نيويورك، ولم يكمل دراسته الجامعية، لكنه عمل في بداية حياته المهنية كمدرس للرياضيات في إحدى المدارس الخاصة.
لم تكن هذه الوظيفة توحي أبدًا بأن صاحبها سيكون لاحقًا من بين أغنى رجال أمريكا وأكثرهم نفوذًا.
دخل إبستين عالم المال من بوابة الشركات الاستثمارية، لكنه لم يسلك المسارات التقليدية. وبحسب تقارير وشهادات مختلفة، بدأت ثروته تنمو بشكل غامض، دون مصدر واضح أو نشاط اقتصادي معلن يمكن تتبعه. ظل السؤال معلقًا: كيف جمع إبستين ملياراته؟
شبكة العلاقات المريبة
امتلك إبستين عقارات باهظة الثمن، من منازل فخمة إلى طائرات خاصة ويخوت، لكن أبرز ما امتلكه كانت جزيرة خاصة في البحر الكاريبي عُرفت لاحقًا باسم “جزيرة إبستين”، تحوّلت إلى مسرح لقصص جنسية صادمة، استُدرجت إليها فتيات قاصرات، في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون.
ما أثار الشكوك أكثر، هو علاقات إبستين الواسعة مع شخصيات من الصف الأول في العالم السياسي والمالي.
فالرئيسان الأمريكيان الحالي دونالد ترامب والأسبق بيل كلينتون، وعضو في العائلة المالكة البريطانية (الأمير أندرو)، كانوا من ضمن أبرز الشخصيات التي ارتبط اسمها بزيارات متكررة للجزيرة أو بعلاقات شخصية بإبستين.
وقد زار بيل كلينتون الجزيرة أكثر من 26 مرة، وفقًا لوثائق رسمية، بينما تظهر صور ومقاطع فيديو علاقات وثيقة بين إبستين وترامب، رغم محاولات الأخير نفي وجود أي صلة حقيقية بينهما.
فضيحة تتوسع
بدأت الشكاوى ضد إبستين تتوالى منذ عام 2005، تتحدث عن استغلاله لفتيات قاصرات وإجبارهن على ممارسة الجنس معه ومع ضيوفه، إلا أن نفوذه الواسع وعلاقاته المتشعبة مكنته من النجاة مرارًا من الملاحقة القانونية. لكن مع تراكم الأدلة وتصاعد عدد الضحايا – الذي وصل إلى أكثر من 250 فتاة – لم يعد بالإمكان تجاهل القضية.
في عام 2019، وبعد تحقيقات مكثفة من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، تم القبض عليه مجددًا، إلا أن ما حدث لاحقًا داخل السجن الفيدرالي في نيويورك فتح أبوابًا جديدة من الجدل والغموض.
نهاية مريبة
في 10 أغسطس 2019، عُثر على إبستين ميتًا في زنزانته. الرواية الرسمية تحدثت عن انتحاره شنقًا، لكن تقارير أخرى أشارت إلى غياب كاميرات المراقبة، وتغيير الحراس في ذلك اليوم، ما أثار شبهات واسعة بأن الحادث لم يكن مجرد “انتحار”.
العديد من المتابعين والمحققين اعتبروا أن إبستين كان “صندوقًا أسود” يحمل أسرارًا خطيرة عن شخصيات مرموقة في العالم، وأن موته جاء بهدف دفن هذه الأسرار إلى الأبد.
حقيقة علاقته بالموساد
من بين أخطر ما تم تداوله، فرضية أن إبستين كان على صلة بجهاز الموساد الإسرائيلي، وأنه استُخدم كأداة لاستدراج وتصوير شخصيات سياسية ومالية في أوضاع محرجة بهدف ابتزازها والتأثير على قراراتها.
هذه الفرضية، وإن لم تُثبت رسميًا، لا تزال متداولة بقوة في الأوساط الإعلامية والسياسية الأمريكية.
الصحفي الأمريكي نِك براينت، وغيره من المحققين، تساءلوا في تقارير حديثة عن مصدر الثروة الحقيقي لإبستين، وعن الهدف الحقيقي من شبكة العلاقات التي بناها، مرجّحين أن الأمر أكبر من مجرد “فضيحة جنسية”، بل أقرب إلى عملية تجسس ممنهجة.
ترامب في قلب العاصفة
الصراع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورجل الأعمال إيلون ماسك أزاح الستار عن جوانب جديدة في الملف، حيث نشر ماسك مؤخرًا مقاطع فيديو تُظهر قرب ترامب من إبستين، ملمحًا إلى تورطه في “قضية الجزيرة”.
ترامب من جانبه يسعى بكل الطرق إلى إغلاق هذا الملف، ويتجنب أي نقاش إعلامي حوله، بل ويبدي انزعاجًا واضحًا من أي تساؤلات تُطرح بشأن علاقته بإبستين خلال المؤتمرات الصحفية.
قضية لم تُغلق بعد
رغم مرور سنوات على وفاة إبستين، فإن القضية لا تزال حيّة.
عشرات الوثائقيات صدرت عن الشبكات الكبرى مثل نتفليكس وHBO، توثق فصولًا من القصة، دون أن تصل إلى الخاتمة.
هناك شعور عام في الأوساط الإعلامية بأن ما نُشر حتى الآن لا يمثل سوى “أذن الجمل”، فيما لا يزال جسده الحقيقي مدفونًا تحت جبال من الأسرار.
وإذا ثبت بالفعل أن إبستين كان يعمل لصالح جهة استخباراتية أجنبية، فإن تأثير ذلك سيمتد إلى صميم صناعة القرار الأمريكي، وقد يُفسر الكثير من المواقف السياسية “غير المفهومة” التي اتخذها بعض القادة الأمريكيين، ومنهم ترامب، تجاه إسرائيل مثلًا.
فهل كانت علاقات إبستين أداة للترفيه فقط؟ أم وسيلة للابتزاز السياسي؟ وهل انتهت القصة فعلاً بموت صاحب الجزيرة؟ أم أن الصندوق الأسود لا يزال ينتظر من يفتحه؟