بقلم / محمد زين العابدين
قد نزل بنا الصيف، ولفحت وجوهنا هواجره، كما صهدت قلوبنا أحداثه ووقائعه، لكن كان مما خفف عنا من شدته، وشيئًا من بطشته أنك تجد حيثما سرت أو جلست بالريف أو الحضر أوانسَ حسناوات يستقبلنك بأطيب ريح، وأشهى منظر، وآنس صحبة، ثم لا يزلن يتلطفن ويترفقن حتى تصغى إليهن فيأخذن بحظهن منك، وتأخذ بحظك منهن، ولو لم يكن من عمل عرابى وهوجته أو وثورته إلا أنها أهدت إلى مصر تلك الحسناوات البارعات لكان حريًّا بنا أن نشكر له صنيعه، ونكافئه بالأنواط والرتب.
ولقد كان أمير الشعراء شوقى بك فى شطر من حياته مقربًّا من القصر، بل قل كان هو شاعر البلاط الخديوى، فهو كما ذكر عن نفسه أنه ابن الحضرة الإسماعيلية فقال: "ولقد وُلدت بباب إسماعيلا" حيث كانت جدته إحدى وصيفات القصر، وقد اتصلت أحبال الزلفى، وتوثقت أسباب القربى بعقب الخديوِ إسماعيل الذين جاؤوا من بعده الخديوِ توفيق، والخديوِ عباس حلمى الثانى، واتفق فى زمن الخديوِ توفيق أن قام عُرابى ومن معه بثورة أو (هوجة عُرابى كما دُعِيت حينئذ)، وانتهى أمر عُرابى ومن معه إلى النفى إلى جزيرة سرنديب (سريلانكا)، وهناك فى (سرنديب) علَّم عُرابى أهلها من المسلمين، وأقام لهم المدارس، وأعانهم على معرفة دينهم.
ثم أُرجِع عُرابى إلى مصر بعد 20 سنة فى المنفى، لكنه كما دخل على أهل سرنديب حاملًا لهم علمًا ودينًا، فهو كذلك لم يدخل على أهله بمصر بعد طول غربة صفر اليدين، فذلك عيب عندنا معاشر المصريين، بل رجع من (سرنديب) إلى أهله حاملًا نبات المانجو، وإن أخطأتَ فصحَّفت وجعلت ميمها باء فلست أُخطِّئك، فإن صاحبهما منهما فى طرب وانتشاء مادام فى حضرتهما يشم ويتذوق، ولقد كان من طيب أصل هذه الشجرة، ومن كرم هذه الثمرة أنها قد توطنت طمى مصر، فصارت بعض أهلنا، وصرنا نحن بعض أهلها!
لكن كأنى بعُرابى قد فاته أن يهدى ثُميرات أو شُجيرات من هذه المانجو إلى شوقى بك أمير ااشعراء، فلقد استقبله شوقى بعد طول الغياب بهجاء قادح كان مطلعه:
صَغار فى الذهاب وفى الإيابِ
أهذا كل شأنك يا عُرابى
وإنى لأزعم أنه لو كان أهداه منها شيئًا مز ثمارها أو عصيرها إذًا لانقلب الهجاء إطراءً، ولتبدل القدح مدحًا، ولاستحال شأن عرابى إكبارًا لا صَغارًا، ولكانت هذه (المانجو) نعم الرسول بين رجلين فرقتهما السياسة والهوى، فإنى لا أظن رجلًا يهدى إلى صاحبه شيئَا من هذه الثمرة الفاتنة إلا ازدادا حبًّا، واتصل ما بينهما من الأُخوة والعشرة، وما أظن رجلًا يهديها إلى عدوه إلا أنساه حسنها وطيبها كل عداوة، وأبدله بها محبة وخلة وولاية.
ولنضرب الآن الذكر عن شوقى وعُرابى وما كان بينهما، ولنعد إلى فاتنتنا الحسناء قبل انقضاء موسمها، فلنبادر فلنهديها إلى أنفسنا أولًا حبا وبرا وكرامة، ثم لنرسلها إلى من أحببنا ومن عادينا، فإنها رسول محبة أبلغ فى الأسماع والأبصار والقلوب من قول كل بليغ.
…………………………………
بقلم / محمد زين العابدين