بقلم / د. محمد مصطفى الخياط
كانت غادة الأمل الذي يتقوى به غسان في غربته، ويتكأ عليه في مرضه وآلامه. تعلق بها وصار حديث الأدباء في بيروت والقاهرة ودمشق.
ملك حبها قلبه فرافقه خيالها آناء الليل وأطراف النهار، يحادثها بينه وبين نفسه، يهمس إليها ويصخب معها، يضحكانويختلفان، يتخيل صمتها، وردود أفعالها، ماذا تحب، وماذا تكره، حتى عندما كان يجلس إلى الطاولة في أحد المطاعم التي اعتادا أن يرتاداها معًا، يطلب الأطباق التي تحبها.. كتب لها ذات مرة "... إن لي قدرة لم أعرف مثلها في حياتي على تصورك ورؤيتك، وحين أرى منظرًا أو أسمع كلمة وأعلق عليها بيني وبين نفسي، أسمع جوابك في أذني"
وتلك حالة -عزيزي القارئ- يدركها المحب من شدة التعلق والولهبالمحبوب؛ جَسَدَها الشاعر أحمد رامي في قصيدة أقبل الليلبقوله، "ما زلت في وحدتي أُسامرها/ حتى سَرَت فيك نسمة السحر"، وجعلت ديك الجن يهمس إلى محبوبته "ورد" بأحاديث الهوى، سواء أكان يجلس وحيدًا أو في زحام صاخب ٍمن الناس، ذلك أن صورتها انطبعت في مقلتيه فلم يعد يرى غيرها، لا فرق بين خيال وحقيقة:
أُحادِثُها لو أنَّ النّاسَ حولي .. وأُسْمِعُها الهوى بيني وبيني
وأُغمِضُ مُقْلتيَّ على خَيالٍ .. أراهُ في الظلامِ كعينِ عيني
ألا فاعلم، يرحمك الله، أن من علامات الحب اللهفة إلى لقاء المحبوب. إن غاب افتقدته، وتلبستك الحيرة والضيق من غير سبب ظاهر، فلا تستقر على أمر، ولا تسكن في مكان وتنفر مما حولك أيما نفور، حتى إذا ما حضر، سكنت نفسك، وهدأ حالك، واستقرت روحك..
تلقاه فإذا الدنيا بين يديك، ثم تهرع تحكي له تفاصيل أيامك، الصغيرة والكبيرة، وتود لو أنك أحطت به فأخفيته عمن حولك، ولنا فيما نظمته ولادة بنت المستكفي في حبيبها ابن زيدون أسوة حسنة (ولو أني خبأتك في عيوني .. إلى يوم القيامة ما كفانيَ).. هكذا كان غسان!
يكتب لها من القاهرة حيث يعمل بمجلة المصور ويقيم في أحد فنادق شارع 26 يوليو، ومن كل مدينة يسافر إليها، وترد غادة من لندن أو بيروت؛ حيث كانت تقيم.
استوقفني ختم دائري على أحد الخطابات، نُقش عليه "رقابة البريد ص7ج"، إشارة للدولة البوليسية التي عبر عنها الكاتب الأيرلندي جورج أورويل في روايته 1984 بجملته الشهيرة، "الأخ الأكبر يراقبك"، ووصفها الشاعر العراقي أحمد مطر في قصيدته أمير المخبرين:
"تهتُ عنْ بيتِ صديقي/ فسألتُ العابرين
قيلَ لي امشِ يَساراً
سترى خلفكَ بعضَ المخبرينْ
حِدْ لدى أولهمْ
سوفَ تُلاقي مُخبراً/ يَعملُ في نصبِ كمينْ
اتَّجِهْ للمخبرِ البادي أمامَ المخبرِ الكامنِ
واحسبْ سبعة، ثم توقفْ
تجدِ البيتَ وراءَ المخبرِ الثامنِ في أقصى اليمين
حفظ الله أمير المخبرين"
ويحدثها عن حفاوة استقباله في المدن التي يزورها، وكيف أنها تقتحم فكره في خضم انشغالاته فيتناول ورقة ويكتب لها، وهكذا كان كلما تفجر شلال الفقد في داخله، وما توقف.. فيض من بعد فيض، لا تنضب شلالات حديثه إليها.. ذكرياتهما معًا، الأماكن التي زاراها معًا، المواقف التي ضحكا فيها حتى دمعت أعينهما، حتى لحظات الأسى كانت حاضرة أيضًا، حتى أنه في بعض الأيام كان يكتب لها أكثر من خطاب.. ".. إنني أقول لك كل شيء لأنني افتقدك، لأنني أكثر من ذلك.. تعبت من الوقوف بدونك".
الشيء الذي كان ينسيه آلام الفقد أن يجد على ملابسه خصلة من شعرها أو خطابًا في انتظاره. أخبرها ذات يوم أنه دخل مكتبه بعد رحلة خارجية استغرقت عدة أيام، فوجد كومة منالخطابات على مكتبه، زم شفتيه وهز رأسه وتمنى أن تكون فيهارسالة من غادة، سحب الكرسي وألقى بجسده المنهك عليه، رشف رشفة من كوب الشاي الساخن، ومد يده وسحب خطابًا، فإذا هو من غادة، ولعلي سيدي القارئ لا أستطيع أن أعبر لك عن مدى سعادته..
"اليوم فقط كنت متيقناً أنني لن أجد رسالة منك،طوال الأيام الـ 17 الماضية كنت أنقب في كوم البريد مرة في الصباح ومرة في المساء. اليوم فقط نفضتُيدي من الأمر كله، ولكن الأقدار تعرف كيف تواصل مزاحها. لقد كانت رسالتك فوق الكوم كله، وقالت لي: صباح الخير! أقول لك: دمعتُ ... كنت أعرف أن شيئًا واحدًا فقط أستطيع أن أقوله، وأنا واثق من صدقه وعمقه وكثافته ... إنني أحبك"
وهكذا، كانت رسائل غسان إلى غادة أكثر من بوح عاشق؛ كانت اعترافًا بضعف الإنسان أمام الحب، وبقدرة الحنين على اختراق المسافات والحواجز وعيون الواشين، نلمس فيها قدرة الكلمة المكتوبة أن تُبقي المحبوب حاضرًا في الغياب، وتُحوِّل الورق إلى وطن صغير، يلتقي فيه العاشقان كلما باعدت بينهما المسافات!
………………………..