11 - 08 - 2025

تَجَلٍّ جَدِيدٌ فِي حَضْرَةِ الكَلِمَةِ الإِلَهِيَّةِ

تَجَلٍّ جَدِيدٌ فِي حَضْرَةِ الكَلِمَةِ الإِلَهِيَّةِ

أولًا: المشهد الإلهي في بُهُوِّ القرآن

في حضرة القرآن الكريم، حيث تتلألأ أنوار الهداية، وتتنزل على القلوب السكينة، نقف اليوم أمام مشهد من مشاهد البلاغة الإلهية التي تَجلَّى فيها عظمة الكلمة وقدسيتها، وذلك في قوله تعالى:

> ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [العلق: 15-16].

إنها كلمات ليست كالكلمات... كلمات تنفذ إلى عمق النفس والعقل، تجمع بين رهبة التهديد وسُموِّ البيان، وتفتح أمام العقل البشري أبوابًا من التأمل في دقائق النفس والكون.

ثانيًا: أبعاد المعنى في السياق القرآني

الآيات جاءت في مقام الردع والزجر لأبي جهل، رمز الطغيان في مكة، الذي بلغ به الكبر أن ينهى رسول الله ﷺ عن الصلاة عند الكعبة. فجاء التحذير الإلهي حاسمًا: ﴿كَلَّا﴾ أي: حقًا لا وألف لا، لئن لم يكف عن طغيانه ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾.

والسفع: هو الجذب العنيف المؤلم من مقدمة الرأس، في صورة إهانة بالغة، كأنما يُجَرُّ من موضع عزته وكبريائه. وليس أعظم إذلالًا للمتكبر من أن يُقبض عليه من موضع تيهه. ثم جاء وصف الناصية بـ: "كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ"، وهنا يتجلى الأسلوب الإلهي في تصوير الذل والإهانة، حيث لم يقل "ناصية صاحبها كاذب خاطئ"، بل نسب الكذب والخطأ إلى الناصية ذاتها، تصويرًا لتحقير صاحبها، وتوبيخًا على فساد منطقه وفعله معًا.

ثالثًا: الإعجاز اللغوي والتصوير البياني

القرآن هنا يصنع لوحة بيانية مدهشة: استخدام "لَنَسْفَعًا" بدلًا من "لنأخذن" يحمل في طياته القوة والشدة. نسبة الصفات القبيحة (الكذب والخطأ) إلى "الناصية" تجسيد لبلاغة "التجسيد والتشخيص" في العربية، إذ جعل الناصية كأنها كائن مستقل يحمل صفات الذم. الجمع بين "كاذبة" (في القول) و"خاطئة" (في العمل) يُبرز شمول الفساد في القول والفعل معًا. إنه خطاب يرتعد له الطغاة، ويخشع أمامه أولياء الله.

رابعًا: تجليات الإعجاز العلمي في الكلمة الإلهية

العقل البشري في هذا العصر اكتشف ما أشار إليه القرآن منذ أربعة عشر قرنًا؛ حيث أثبت علم الأعصاب أن منطقة "الناصية" (مقدمة الرأس) هي المسؤولة عن التفكير واتخاذ القرارات الأخلاقية، والكذب والصدق، والسلوك الإرادي. فالإنسان إذا كذب أو أخطأ أو استكبر، فإن مركز ذلك كله في "الناصية". وقد بيّن الله تعالى هذه الحقيقة في قوله: "نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ".

وليس ذلك من باب المجاز البلاغي، بل وصف دقيق لجذر السلوك الإنساني الذي يتجسد في مقدمة الدماغ. والإشارة إلى إمساك هذه الناصية وسحبها ليست مجرد تهديد، بل فيها تصوير علمي لطبيعة موضع القرار الإرادي عند الإنسان.

خامسًا: وقفة إيمانية وتربوية

إن الذي يتأمل هذه الآيات لا يسعه إلا أن يخشع أمام عظمة الكلمة الإلهية: كيف أن الإنسان، مهما بلغ من جبروت وسلطان، نهايته إلى ذل وهوان إن هو كذب وخطئ. وكيف أن الإنسان مسؤول عن تهذيب "ناصيته"؛ أي منطقه وعقله وسلوكه. وفيها دعوة خفية لكل ذي قلب أن يجعل ناصيته سجودًا لله، لا طغيانًا على خلق الله، فكل من أذلّ ناصيته لله رفعه الله وأكرمه.

سادسًا: دلالة عقلية عميقة

لو تأملتَ في تصرفات الجبابرة والمستكبرين عبر العصور، لوجدتَ أنهم جميعًا حين يسقطون، يُذلون في نفس الموضع الذي تكبروا به: من تكبر بعقله أذله الله بالجنون. ومن تكبر بسلطانه أذله الله بالخلع والطرد. ومن تكبر بجسده أذله الله بالمرض والعجز. إنها سُنة إلهية أن يُعاقب المرء في "ناصيته"؛ أي مظهر استعلائه.

المصادر:

القرآن الكريم – تفسير ابن كثير – تفسير الطبري – د. فاضل السامرائي (بلاغة القرآن) – د. زغلول النجار (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) – د. عبد المجيد الزنداني (دراسات في الإعجاز العلمي) – معاجم اللغة العربية (لسان العرب، مادة "سفع" و"ناصية").

……………………….

بقلم: خالد أحمد مصطفي

مقالات اخرى للكاتب

في حضرة الكلمة الإلهية |