03 - 08 - 2025

خطبة موحدة وشعب ذو شجون

خطبة موحدة وشعب ذو شجون

يقوم خطيب الجمعة على منبره فى الجامع الكبير بقرية "حمرة دوم" فى قنا فيخطب فى القوم عن (نعمة الماء)، ويقوم زميله فى جامع قرية "الدوالطة" ببنى سويف على مسافة نحو ٦٠٠ كيلو متر فيلقى ذات الخطبة لأهلها المختلفين فى همومهم وآفات مجتمعهم عن مجتمع "حمرة دوم"، ويقوم صاحبهما السكندرى فى مسجد "القائد" على مسافة نحو ألف كيلو متر فيخطب ذات الخطبة لقوم حضرت لهم من الهموم والآفات ما ليس عند الأولين!

وإنه لمن الحسن أن تكون الخطبة الموحدة للجمعة فى مسجد حيِّك أو قريتك عن "نعمة الماء" وحث المصلين على الحفاظ عليه، لكن إذا خطيب القوم حثهم على حفظ الماء وترك الإسراف فيه وهم قوم لا يحقنون الدماء ويسرفون فى القتل فقد خان الأمانة، فعند هؤلاء يكون الحديث عن حقن الدماء مقدمًا على حفظ الماء، ويكون الحديث عن حرمة الدماء هو واجب الوقت فى كل جمعة، وفى كل درس حتى يسكن شيطانهم، فإذا ذهبت عنهم شهوة الدم فدونك المنبر فحدثهم عن الماء وأفض فيه، أما انتظار دور خطبة (حرمة الدماء) فى جدول خطب الوزارة ففيه فناء القوم!

وحفظ الماء فضيلة وقربى، لكن التذكير به عند أهل بلدة يتعاطون الربا دون إنكار فعلتهم فذلك عمل غير صالح، فواجب الوقت المقدَّم عند أهل هذه القرية هو الإنكار عليهم فى شأن أكل الربا، وتقبيح تعاطيه فى نفوسهم، وتخولهم بتلك المواعظ فى الخطبة بعد الخطبة، وفى الدرس بعد الدرس حتى يعوه، فإذا وعوه ولانت قلوبهم، وسمحت نفوسهم بأخذ رأس المال وترك الربا فقد أفلح الوزير والخطيب، فحينئذ نقول له دونك المنبر فحدثهم عن الماء وأفض فيه، أما انتظار دور خطبة (حرمة الربا) فى جدول خطب الوزارة فلن يأتى، وسيظل الخطيب يحدثهم عن الماء، والسلام، والمحبة، والقوم بين محبوس فى دَينه، أو خائف مترقب، أو فقير ازداد فقره، أو ذى ضغينة يوشك أن يفتك بجاره المرابى، أو غير ذلك من الآفات التى تورثها مؤاكلة الربا بين أهل البلد الواحد.

ثم هَب خطيب الأوقاف الملتزم الخطبة الموحدة وقد وقف خطيبًا فى مسجد حى اشتهر أهله بالمخدرات تجارةً وإدمانًا، فهل واجب الوقت أن يحدثهم بفضل الاقتصاد فى ماء الوضوء وهو بين أظهُر قوم يسرفون فى تعاطى المخدرات؟! لئن فعل فليعلم (هو ووزيره) أنه لم يقم لهم بالأمانة على وجهها، فهؤلاء أحوج إلى خطب، ودروس، وندوات، ومصحّات، وتفقدهم فى ديارهم، ومقاهيهم، ونواصيهم بوفود من الأئمة والوعاظ؛ ليعودوا بهم عن غيّهم، وينقذوا لهم أنفسهم، ويستنقذوا الأمة من شرهم، فإذا ما انتظر خطيب الحى الخطبة الموحدة عن (أضرار المخدرات) حتى تأتيه من الوزارة فسيبلغ دخان الحشيش أنف الوزير فى مكتبه قبل أن تبلغ الخطبة مرتجاها!

إن خطبة الجمعة أخطر شأنًا، وأبعد شأوًا من جعلها نقاطًا فى أسطر يلقيها قارئ على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل ليحفظ الخطبة التى بعدها، كأنما هو تلميذ فى الأول الإعدادى يحفظ موضوعات (إنشا) ليوم امتحان!

إن خطبة الجمعة هذه إن أُحسن تخيرها وعرضها وإنزالها بجمهورها الملائم أصلح الله بها أمة، ويعلم العوام من الناس أن كل حى له هَمٌّ غير الحى الذى بعده، ويعلمون أن كل قرية مبتلاة بآفة غير أختها فى ذات المحافظة، ومعالجة آفة قرية فى بحرى غير معالجة آفة نجع فى قبلى، وكيف تكون خطبة الجمعة لأهل الإسكندرية هى ذاتها تلقى عند قبائل سيدى برانى؟! وفى أى عقل تستقيم خطبة موحدة يضعها أفندية أو شيوخ فى مكاتب الوزارة بالعاصمة، ثم يفرضونها على ما يزيد على مائة ألف مسجد على مساحة تزيد على مليون كيلو متر مربع، فيهم القروى، والحضرى، والبدوى، ولكل أهل مسجد همهم وآفاتهم؟!

إن خطبة الجمعة لا يصلح أن تكون موحدة، ولا يصح وضعها من أهل المكاتب، بل يضع موضوعاتها وجدولها أئمة كل حى وقرية بحسب ما يرون من الداء والخلل فى أهل بيئتهم، ثم يرسلونها إلى الوزارة لاعتمادها، فإذا ما عَرَضَ أمر أو نزلت ملمة بأهل الحى أو القرية بعد اعتمادها وإقرارها فللخطيب أن يخطب بما يوافق الحادث المستجد وإن خالف الخطبة الموضوعة لجمعته تلك، وكذلك يكون للوزارة أن تفرض الخطبة الموحدة إذا عَرَضَ أمر عظيم للبلاد يجدر جمع الناس عليه كالحرب ونحوها.

هذا ما رأيته فى شأن الخطبة الموحدة، والله يهدى إلى سواء الصراط.
-------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

خطبة موحدة وشعب ذو شجون