03 - 08 - 2025

صدام المشروعات الجيوسياسية على الساحة السورية

 صدام المشروعات الجيوسياسية على الساحة السورية

تحدثت في مقال سابق عن القوى الخارجية التي تعاونت على الإطاحة بنظام الأسد، كل بحسب مصالحه ومشروعه الجيوسياسي. وقد قسمت هذه القوى الى: دولية، وإقليمية. وتمثلت القوى الدولية في كل من الولايات المتحدة (ومعها دول الاتحاد الأوربي، بدرجات متفاونة) وروسيا. أما القوى الإقليمية فتمثلت في كل من إسرائيل وتركيا وممالك الخليج.

وبانهيار نظام بشار الأسد، على النحو الدراماتيكي الذي شهدناه، تمكنت الجماعات "المعارضة" من تسلم السلطة، وذلك في الثامن من شهر ديسمبر 2024. 

ويمثل عماد هذه الجماعات فرع تنظيم القاعدة في سوريا، والذي سمى، في البداية، باسم "جبهة النصرة"، ثم تحولت تسميته الى "هيئة تحرير الشام". وتحالف معه عدد كبير من التنظيمات والحركات الجهادية، منها "الاخوان المسلمون" و"الحزب التركستاني"، و"لواء السلطان مراد"، وفصيل يسمى "الحمزات"، وآخر يسمى "العمشات"، وجماعات أخرى تتكون ممن يحملون جنسيات غير سورية مثل الأوزبك والشيشان والطاجيك.. الخ. وهذه الجماعات تنتمي كلها الى المذهب السلفي الجهادي المتشدد، وكثير منها مصنف كجماعة إرهابية. إضافة الى ما يسمى ب "الجيش السوري الحر" والذي يطلق عليه أحيانا اسم "الجيش الوطني الحر"، وهو عبارة عن مجموعات عسكرية قامت بالانشقاق على الجيش السوري الرسمي ابان ما عرف بالثورة السورية التي اندلعت أحداثها في شهر مارس عام 2011.

 وفي الجهة المقابلة لكل من النظام الأسدي وتلك الجماعات السنية، معا، تواجد فصيل سوري كردي، ينطلق في معارضته للنظام من أسس عرقية، وهو تنظيم مسلح ويحظى بدعم كل من أمريكا وإسرائيل. ألا وهو القوات الكردية المعروفة باسم "قوات سوريا الديمقراطية"، واختصارها "قسد". 

إن نظرة واحدة إلى طبيعة هذه القوى المعارضة ومسمياتها وتوجهاتها الأيديولوجية يمكنها أن تنبئنا، بدرجة معينة، عن طبيعة القوى الإقليمية والدولية التي تقف وراءها. 

ومن البداية، لا بد من التأكيد على أن القوى المعارضة، ذات الطبيعة الدينية (الطائفية) لم يكن من الممكن لها أن تتواجد في سوريا (تحديدا: منطقة ادلب والشمال السوري) والسماح لها بالمرور والتمتع بالخدمات الإعاشية واللوجستية والتسليحية المختلفة، إلا بسماح ورعاية ودعم من تركيا، بالمقام الأول، وبعد ذلك، يأتي، في المرتبة التالية، دور كافة الدول الراعية. ولذلك تعد تركيا الراعي الأول لهذه المجموعات الإرهابية. 

كما أن الاخوان المسلمين يتمتعون برعاية قطرية - تركية، مباشرة، من النواحي المالية والتسليحية، كافة. بينما قامت السعودية وتركيا بدعم الجيش السوري الحر. وانفردت تركيا بدعم لواء السلطان مراد ومن معه من الجماعات التي تنتمي الى الأقلية التركمانية. بينما يتمتع تنظيم قسد برعاية أمريكية ظاهرة ورعاية إسرائيلية خفية.

ومن هنا يمكن القول بأن الرعاة الرئيسيين للمعارضة السورية ينحصرون في كل من أمريكا وإسرائيل وتركيا والسعودية وقطر، بينما يمكن وصف موقف الامارات العربية المتحدة بأنه كان الأكثر تذبذبا إزاء تلك الأزمة، فهو لم يكن مؤيدا للأسد ولكنه كان أيضا يبدي تخوفه من استيلاء الجماعات الدينية الراديكالية على الحكم في سوريا. وهو موال للسياسات الأمريكية، ولكنه لم يرغب في استفزاز إيران. ولذا جاء موقفه أقل عدوانية تجاه نظام الأسد، قياسا بموقف كل من السعودية وقطر. 

وبالطبع، جاء هذا الدعم المقدم للجماعات الثائرة على نظام بشار، في مواجهة كل من روسيا وايران اللتين كانتا الداعمتين الرئيسيتين لنظام بشار الأسد، واللتين تعدان الخاسر الأول، في كل هذه الأحداث، إلى جانب مصر بالطبع من زاوية أخرى.

وعلى ذكر مصر، فلقد جاء الموقف المصري منذ الأحداث التي اندلعت في سوريا بداية من شهر مارس عام 2011، متحوطا وحذرا، إلى حد كبير. فلم يرق إلى مستوى الدعم العلني المباشر، قياسا بالموقفين: الإيراني والروسي، كما أنه لم يخف موقفه المعادي للجماعات المسلحة التي تقاتل ضد النظام، وقلقه الشديد من احتمال خسارة سوريا وخروجها من الساحة المعادية لإسرائيل. 

وربما جاء الموقف المصري على هذا النحو، رغبة في عدم استفزاز ممالك الخليج وأمريكا وإسرائيل والغرب، وقت أن كانت مصر تمر بأضعف حالاتها، فقد كانت تلملم جراحها من بعد ثورة يناير 2011، وتعاني من الفوضى التي أعقبت إقصاء مبارك عن الحكم، ثم دخولها في مرحلة حكم الإخوان القلقة والمتوترة إلى أقصى حد، ثم الثورة على الإخوان وإقصائهم عن السلطة، ثم مرحلة انتقالية حتى عام 2014. 

بيد أن الموقف المصري كان ولا يزال الموقف الأكثر مبدئية ووضوحا، فيما يتعلق بضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، عن طريق رفض أي نوع من التقسيم، سواء الطائفي أو العرقي، ودعم مؤسسات الدولة فيها. وإيجاد حلول سياسية للأزمة مع التأكيد على ضرورة مكافحة الجماعات الإرهابية. 

وهذا الموقف، من وجهة نظري، نابع من تقدير مصر للقيمة الاستراتيجية الكبرى لسوريا، وبخاصة فيما يتعلق بصراعنا الممتد مع إسرائيل، وهو أمر يرتبط، أيضا وبصورة جوهرية، بالعقيدة السياسية والعسكرية الراسخة لدى المصريين، والمتمثلة في أن العدو الرئيسي لمصر هو الكيان الصهيوني.  فانهيار سوريا، لا شك يزيد الخلل في موازين القوى الاستراتيجية في هذا الصراع (وهي المختلة أصلا وعلى نحو مزمن) لصالح العدو الصهيوني. وهو ما يلقي أعباء أكبر على كاهل مصر في حال حدوث أي مواجهة عسكرية. فضلا عن أن سقوط سوريا سيفتح حتما شهية العدوان والتسلط لدى الكيان الذي تتحكم فيه اتجاهات دينية وتوراتية، لا تخفي أطماعها في كل بلدان الشرق العربي بما فيه مصر. 

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام يتمثل فيما يلي:

هل سيبقى التحالف بين هذه الدول التي اتفقت إراداتها على إسقاط النظام السوري قائما؟؟ أم أن لكل منها أجندته الخاصة التي ستحتم الاصطدام والاختلاف؟؟ 

من الطبيعي أن يكون لكل من هذه الجهات حساباته وتصوراته الخاصة فيما يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط. انطلاقا من الميدان السوري. وسوف أتناول كلا من الجهات المتصارعة في هذه القوى، واحدة تلو الأخرى، فيما سيلي.

التناقض الروسي - الأمريكي، التركي:

لقد كان هدف أمريكا وحلفائها من إسقاط بشار الأسد ليس فقط تأمين الحماية لإسرائيل، خاصة أن الدولة السورية كانت تبدي أكبر قدر من الرفض والممانعة لمخططات التطبيع والهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، وتقدم كل الدعم لقوى المقاومة. ولكن إلى جانب ذلك، أيضا، كان هناك هدف حرمان روسيا من محطة وقاعدة استراتيجية مهمة متواجدة في "المياه الدافئة"، في إطار جهود الغرب لتقليص النفوذ والتواجد الروسي على الصعيد العالمي، وبخاصة على صعيد الشرق الأوسط، لا سيما بعد نشوب الحرب الروسية - الأوكرانية. 

فضلا عن الطموح التركي الغربي في مد أنبوب غاز عبر ممر (زنجزور)، الذي يمتد من أذربيجان الى كل من تركيا وسوريا، وصولا الى أوروبا، وهو الأمر الذي سيضر بقيمة الغاز الروسي في الأسواق العالمية، عامة، والأوربية، خاصة. وسيجعل العقوبات التي وقعها الغرب على روسيا أكثر ايلاما. فضلا عن الجهود الحثيثة والتي سيدعمها الإقدام على محاولات سلخ أذربيجان التي تقع ضمن مناطق "الكومنولث الروسي"، الذي يعد حزام الحماية الجنوبي لروسيا، وضمها إلى الحلف الغربي. تماما كما حدث من محاولات مع جورجيا من قبل، وما يحدث مع أوكرانيا حاليا. وهو ما يشكل تهديدا كبيرا ومتواليا للأمن الاستراتيجي لروسيا. ولذا فإن روسيا لن تغفر لكل من تركيا وأمريكا هذه الفعلة. وعموما فإن التناقضات الروسية التركية قديمة، قدم الصراع بين الامبراطوريتين: القيصرية الروسية والسلطنة العثمانية منذ القرن السادس عشر. كما أن هذه التناقضات كثيرة وفي أكثر من ملف، وعلى رأسها ملف ما يسمى ب "العالم التركي"، الذي هو نفسه ما يطلق عليه الروس اسم الكومنولث الروسي. إضافة إلى ملف (القرم) الذي تعتبره تركيا اغتصابا لجزء من مناطق نفوذها التاريخية. وكذلك الملف الأوكراني، في وقتنا الراهن. وهو ما يعني أن حسم الوضع في سوريا، على النحو الذي رأيناه، يمكن أن يكون قد تجاوز حد التناقض واختلاف المصالح إلى حد الضرب المباشر في الخواصر الرخوة. 

ولذا يعد نجاح أمريكا وتركيا في إسقاط بشار الأسد هزيمة ثقيلة للروس. ولا شك أن روسيا تضمر الرد وتحاول استعادة نفوذها القديم، بيد أن التحرك الروسي الحاسم قد يتأجل الى ما بعد نهاية الحرب الأوكرانية. وإلى أن تسمح الظروف بذلك، فإن روسيا ستحتفظ بعلاقاتها القوية بالأقلية العلوية، التي لا تجد نصيرا وحاميا لها من التوحش الأصولي الذي يتحكم عناصره في سوريا الآن، من الناحية العملية، إلا في التواجد العسكري الروسي في قاعدتي حميميم وطرطوس. وكذلك علاقاتها القوية والتقليدية مع عدد من قادة الجيش السوري القديم، والذي تم حله. 

ومن هنا فإني أستطيع القول بأن سوريا ربما تصبح ميدانا لحرب كبرى في المستقبل المنظور، تتورط فيها قوى نووية عظمى. وربما لن تقتصر الحرب على انخراط روسيا، في مواجهة كل من: تركيا، وأمريكا، ومن ورائها الغرب، وإسرائيل. بل ربما تشتبك الصين أيضا نظرا لتهديد مصالحها بسبب سقوط الأسد. فالصين تشعر بأن كل ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط إنما يهدف (في جزء ليس بالقليل منه) إلى تحجيم نفوذها وانتشارها على الصعيد العالمي، وأنها من المستهدفين الرئيسيين في كل التحركات الغربية بقيادة أمريكا. كما أن الصين تعي، بقوة، أن اللعبة في الشرق الأوسط إنما هي الحلقة الأهم، (نظرا لما تتمتع به من أهمية استثنائية لكونها تحتوي على منابع الطاقة والممرات البحرية الاستراتيجية) في سلسلة كبرى، عالمية الطابع، من الحرب الباردة، (التي قد تتحول في لحظة إلى حرب ساخنة، يعد لها الجميع بكل ما أوتي، وعلى مختلف الأصعدة: العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية.. الخ)، بينها والغرب الذي تقوده أمريكا.

التناقض التركي - الأمريكي، الإسرائيلي:

لا شك في أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تقوم على أكثر من مجرد التبادل التقليدي للمنافع بين الدول. فإذا كانت فكرة "إعادة هندسة الشرق الأوسط" قد جاءت على النحو الذي يحقق مصالحهما معا. فإن هذه المصالح مترابطة على نحو لم تعهده العلاقات بين الدول من قبل، فإسرائيل تعد قاعدة عسكرية أمريكية أو حسب تعبير البعض "حاملة طائرات أرضية" بالنسبة لأمريكا. وعموما يمكن القول بأن إسرائيل من حيث النشأة ما هي إلا "رأس حربة" للمشروع الاستعماري العالمي، والذي توالى على رعايته معظم الدول الاستعمارية منذ قيام دولة اسرائيل عام 1948، سواء أكانت إنجلترا ومعها كل دول أوروبا الرأسمالية الاستعمارية، (فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا.. الخ)، أو كانت أمريكا منذ بداية الستينيات، حتى الآن. بينما لم تتخل أي من دول أوروبا المشار اليها (أخص بالذكر منها إنجلترا وفرنسا وألمانيا) عن تقديم الدعم الإضافي، قدر المستطاع إلى دولة الكيان، سواء على المستوى الاستخباري، أو العسكري، أو الديبلوماسي.. الخ. 

بيد أنه من الضروري ملاحظة ظهور أنواع من التناقضات وتباين الأولويات، على المستويين: السياسي والاقتصادي، بين بعض دول أوروبا، من ناحية، والولايات المتحدة، من ناحية أخرى. وبخاصة فيما يتعلق بالموضوع الأوكراني، وكيفية إدارة العلاقة مع روسيا والصين وبلدان الشرق الأوسط.. الخ. وقد تبدى هذا الأمر في ظهور بعض الأصوات الأوروبية المناوئة للولايات المتحدة وإسرائيل، على نحو صريح فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني، (مثل أيرلندا وإسبانيا والبرتغال). ويضاف إليها بقوة موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي تشارك فيها بعض الدول الرئيسية في أوروبا، ومعها كندا، في الوقت الراهن.

من هنا نرى أن العلاقة الأمريكية - الإسرائيلية تمثل نوعا متقدما للغاية من العلاقات بين الدول، بما يكاد أن يصل إلى حد التطابق، بينما تمثل العلاقة الأوروبية - الإسرائيلية نوعا آخر، بمعنى أنه على الرغم مما ينطوي عليه من تحالف ودعم، فإنه يحمل قدرا من التباين النسبي، الناجم عن اختلاف التقديرات، قياسا بالعلاقة مع الولايات المتحدة.

ولقد تبدى التطابق الأمريكي - الصهيوني في طرح المشروع الذي عرف بـ "الشرق الأوسط الجديد". وهو مخطط قديم - جديد، يشير إلى جملة من التغيرات المزمع إحداثها في خريطة الشرق الأوسط، وينذر بتحولات جيوسياسية، تتغير بموجبها الحدود القائمة، بما يتلاءم مع مقتضيات أمن دولة الكيان. وأيضا لخدمة مشروعات اقتصادية كبيرة وممرات تجارية جديدة مثل طريق البهارات، (الذي يهدف الى قطع الطريق على خطة الحزام والطريق الصينية). وكذلك مد خطوط غاز وبترول عبر الدول التي سيعاد تقسيمها، (مثل خط غاز قطر الذي من المخطط له أن يمر عبر السعودية وسوريا ومن ثم تركيا، الى أوروبا). أو خط غاز (زنجزور)، أو غير ذلك من مشروعات اقتصادية تخدم مصالح قوى دولية وأخرى إقليمية.  

ومن هنا يمكن القول بأن المصلحة الأمريكية الإسرائيلية تمثل المشروع الرئيسي في المنطقة، وهو المتمثل في مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، على النحو الذي تم ذكره. واذا كان من الممكن أن تلتقي مع هذا المشروع مصالح قوى معينة ممن ساهموا في إسقاط الأسد، فلقد اتضح، كذلك، أن تلك المصالح يمكن أن تتناقض، أيضا، مع مصالح جزء آخر من القوى نفسها، أو مع مصالح قوى ثالثة.

وأول أشكال التناقض هو التناقض بين كل من المشروع التركي والمشروع الأمريكي - الإسرائيلي. من حيث أن إسرائيل تهدف الى تقسيم بلدان المنطقة على أسس عرقية وطائفية - دينية. وبخاصة سوريا، التي تمثل بؤرة الأحداث الراهنة. وقد رأينا التدخل الإسرائيلي العسكري لصالح "دروز" السويداء في الفترة الأخيرة، كما أن إسرائيل تتحالف مع "قسد" (قوات سوريا الديمقراطية، ذات الانتماء إلى القومية الكردية). وهي تهدف، عن طريق توطيد علاقاتها مع هذين الطرفين، إلى إقامة ما يسمى "ممر داوود"، الذي يبدأ من أقصى جنوب سوريا إلى أقصى شرقها وشمالها، والذي تستهدف إسرائيل، من خلاله، الوصل بين إسرائيل والأراضي التي يسيطر عليها الكرد من جماعة (قسد)، وصولا إلى مياه نهر الفرات، عن طريق البر. وهو مشروع يتعلق، في جزء كبير منه، بنبوءات توراتية غيبية، تندرج ضمن مشروع "إسرائيل الكبرى"، بوصفه مشروعا دينيا في الأصل. كما أنه يتعلق، في الجزء الآخر، بمحاولة قطع الارتباط البري بين سوريا وكل من: ايران، والعراق. بما يعني عزل سوريا بالكامل عن الجغرافيا العربية والإسلامية (باستثناء تركيا). 

كما أن أمريكا تريد الهيمنة على النفط السوري في منطقة الجزيرة، إلى جانب تعزيز وتوسيع قواعدها العسكرية في التنف ودير الزور، تعزيزا لهيمنتها المطلقة على المنطقة.

وهذه الأهداف، من جانب كلتا الدولتين (أمريكا وإسرائيل)، تتناقض، بصورة جذرية، مع المشروع التركي، الذي يهدف إلى إحياء المجد العثماني التالد، عن طريق استعادة الهيمنة على سوريا. ومن ثم، باقي أقطار الشرق العربي. وبالتالي فإن الترك يريدون سوريا كاملة غير مقسمة، ولحسابهم وحدهم، ويعزز ذلك اعتقادهم بأنهم أصحاب الإسهام الأكبر والأهم في انتصار مخطط الإطاحة بالأسد. 

كما أن فكرة تقسيم سوريا، التي تعمل عليها إسرائيل، تعني بالضرورة قيام دولة أو (كانتون) كردي، وهو ما يفتح باب الجحيم على تركيا، بالمعنى الحرفي للكلمة. خاصة أن الكرد السوريين، الذين يتمتعون بدعم ورعاية أمريكية وإسرائيلية، يتواجد، أعداد كبيرة من أبناء قوميتهم، في كل من العراق وإيران، وفي تركيا نفسها، حيث يبلغ تعدادهم في تركيا ما يقارب 17 مليون إنسان، أي ما يقرب من 20% من السكان، ويشغلون ما يقارب ثلث الأراضي التركية. بما يمكن أن يفتح الباب لقيام دولة كردية على حساب وحدة التراب التركي (فضلا عن العراقي والإيراني). 

ولذا، فإإن التناقض التركي - الأمريكي الإسرائيلي يعد تناقضا مفصليا، لأنه يشتمل على نقاط تمس جوهر المشروعين المتنافسين. وقد يفضي إلى تقاتل بالنار بين كل من تركيا وإسرائيل المتحالفة مع أمريكا على الغنيمة السورية، إن لم يتم إيجاد صيغة للتسوية ترضي الطرفين، وكذلك ترضي القوى الراعية للجماعات المسلحة، على حساب التراب السوري، وهذا ما أرجحه، في حال وصول الأوضاع الى نقطة حرجة.

التناقض السعودي - التركي، والسعودي - الاسرائيلي: 

هناك، أيضا، تناقض سعودي - تركي يمكن أن ينشأ في حال تمكنت تركيا من الفوز بالغنيمة السورية، كاملة، لحسابها. وذلك، لأن السعودية قد دعمت ماليا، بقوة عملية اسقاط الأسد وعلى طول مراحل ما يسمى بـ "الثورة السورية" على مدار أربعة عشر عاما، بهدف أساسي واستراتيجي بالنسبة لها، ألا وهو التخلص من النفوذ الإيراني في كل من سوريا ولبنان (حزب الله)، باعتبار أن هذا النفوذ يعد مهددا لطموحاتها في قيادة المنطقة. ولذا فإنها غير مستعدة، على أي نحو، لاستبدال النفوذ الإيراني بالنفوذ التركي. فإذا كانت تركيا تطمح إلى زعامة العالم الإسلامي السني، عن طريق إحياء ما يعرف باسم "العثمانية الجديدة"، فإن السعودية ترى نفسها أحق وأولى من تركيا بهذه الزعامة. ويرجع هذا الشعور بالاستحقاق، لدى السعوديين، إلى أسباب عديدة: منها المركز الديني الذي تتمتع به السعودية (فهي بلاد الحرمين)، وكذلك الدعم الهائل الذي قدمته للجماعات المناهضة للأسد، وليس آخرها الوفرة المالية والثروة النفطية الهائلة التي تتمتع بها. ولذا ترى أنها بموجب كل هذه المسوغات تستحق وضعية قيادية على صعيد المنطقة بالكامل. 

وللأسباب ذاتها تعارض السعودية المشروع الصهيوني في محاولته تقسيم سوريا والهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. فالسعودية قد تقبل الانضواء تحت الإبط الأمريكية، وقد تقبل التعاطي الإيجابي مع الطروحات الإسرائيلية، بل التعاون معها في ملفات كثيرة (الملف اليمني مثال على ذلك)، ولكن ثمن ذلك لا بد أن يكون متمثلا في تلبية طموحاتها في المشاركة في زعامة المنطقة، إن لم يكن في زعامتها دون شريك. من هنا نفهم إصرار السعودية على عدم المضي قدما في التطبيع مع إسرائيل والمماطلة في تمرير ما يسمى بالديانة الابراهيمية، والنظر بعين الشك والريبة لتحركات كل من تركيا وإسرائيل في الملعب السوري. وإذا أيقنت السعودية من أنها قد تخرج من تلك المواجهة خالية الوفاض، فإنها يمكن أن تقلب خريطة تحالفاتها رأسا على عقب. 

التناقض القطري - التركي، والقطري السعودي:

لا يمكن النظر إلى قطر بوصفها دولة كاملة السيادة، فهي في الحقيقة أقرب الى مفهوم الدولة الوظيفية منها الى الدولة الطبيعية، مثلها في ذلك مثل دولة إسرائيل. أي أنها دولة يرتكز وجودها على قدرتها على القيام بأدوار محددة لصالح قوى عظمى. والدور القطري يتمثل في دور مقاولي الباطن الذين يقومون بالأعمال التي قد يخجل من القيام بها المقاولون الكبار. ولذلك فان أهميتها تكمن في أن تقوم بتمويل هذا النظام أو تلك المنظمة أو أن تقوم بدور الوساطة بين الأطراف لصالح قوى أكبر، أو أن تتحرك بالوكالة عنها.. الخ. 

بيد أن هذه الوضعية لا تمنع هذه الدويلة الصغيرة (يبلغ عدد سكانها 300 ألف نسمة) من أن يكون لديها تصورات ومخططات ترتبط بحماية أمنها ومصالحها وعوامل بقائها، في مواجهة العدائيات والأطماع المحدقة بها. فهي، مثلا، لا تقبل بالهيمنة السعودية على منطقة الخليج، فضلا عن هيمنتها على كامل الشرق العربي. وقد يعزى ذلك الى الثقافة القبلية القائمة على التنافس والتنابز والتفاخر، وقد يرجع، أيضا، الى مخاوفها (المبررة، من وجهة نظري) من طموح الزعامة السعودية على حساب الكيانات الصغيرة القائمة في شبه الجزيرة العربية. وهذا هو الأقرب الى الرجحان، بحسب المعايير التي تقوم عليها العلاقات المعاصرة بين الدول. 

وأعتقد أن هذا "الخوف من الالتهام" هو الذي يحكم مجمل السياسات القطرية، (وربما غيرها من دويلات الخليج الصغيرة). ولذلك تتجه قطر في كثير من الأحيان إلى لعب دور "الوسيط" القريب من كل الأطراف القوية والفاعلة. فهي تتحالف مع أمريكا وإسرائيل، ولكنها تحتفظ بعلاقات متميزة مع كل من: ايران، وحزب الله، وحماس، والجهاد. وهي ترعى الاخوان المسلمين، لكنها تحافظ على علاقات قوية مع كل خصومهم. وهي عضو في مجلس التعاون الخليجي ولكنها أصبحت أقرب إلى اليمن منها إلى معسكر السعودية والإمارات والبحرين التي قاتلت اليمن. وهي تسعى لإقامة علاقات جيدة مع مصر ولكنها تدعم الإخوان المسلمين ضد مصر ولصالح أمريكا وإسرائيل وتركيا.

وعلى الرغم من تناقض الموقف القطري مع الطموحات السعودية، فإن من الممكن لديه التسامح، للغرابة، مع المخططات الإسرائيلية!!، بل إنه ربما يعمل على القيام بدور الوسيط لتمرير هذه المخططات (مثل تقديم الدعم المالي لحماس بطلب من إسرائيل، بحسب اعتراف رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم) فضلا عن السماح بطرح السردية الإسرائيلية، عبر قناة الجزيرة، عن طريق استضافة مسؤولين لدى دولة الكيان في برامجها.. الخ. وأعتقد أن ذلك يتم في إطار فكرة استجلاب الحماية الأمريكية التي تحكمها عقدة "الخوف من الالتهام" المشار اليها. 

وعلى الرغم من تقارب قطر مع تركيا وإغراقها بالمنح والاستثمارات المليارية، وانتدابها لإقامة قواعد عسكرية في أراضيها، إبان فترة التوتر السعودي - القطري والتهديدات السعودية (ومعها الإمارات ومصر والبحرين) بغزو قطر عام 2017، وعلى الرغم من اشتراكهما معا في دعم جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات الأصولية، فإن قطر تتوجس من المخططات التركية، وبخاصة الاقتصادية، وأخص منها بالذكر مشروع ممر زنجزور للغاز الأذربيجاني الذي سيمر بكل من سوريا وتركيا، والذي يمكن أن يطيح بأهمية مشروع خط الغاز القطري المتوجه نحو سوريا إلى أوروبا. ولذا فإن قطر ترى في التحركات التركية ألوانا من الغدر الذي لا يبعث على الاطمئنان.

من هنا يتبدى لنا مقدار التعقيد الذي تنطوي عليه علاقات القوى بمنطقة الشرق الأوسط، والذي يشي بصورة واضحة بأن ما حدث من تغيرات ليس نهاية المطاف بالنسبة لأطراف الصراع في هذه المنطقة، بل إنه يكاد يؤكد أن المنطقة مقبلة على مرحلة ممتدة من السخونة، تفوق ما شهدته في الفترة المنصرمة.
----------------------------
بقلم: د. صلاح السروي

مقالات اخرى للكاتب

 صدام المشروعات الجيوسياسية على الساحة السورية