20 - 08 - 2025

خيوط الظلّ.. الحكم من وراء الستار!

خيوط الظلّ.. الحكم من وراء الستار!

آلة تدمير ذاتي تحوّل الدولة إلى غنيمة والمواطن إلى ضحية!
- نحتاج ثورة ثقافية توافقية تعيد تعريف مفهوم السيادة وإرادة سياسية تقطع حلقات التبعية الدولية ومشروع تنموي يحول مصر إلى وطن منتج لأبنائه

مثل وحشٍ هجين يختفي في دهاليز السلطة، تطفو "الدولة العميقة" (Deep State) كأخطر ظواهر المشهد السياسي المصري الحديث، فهي ليست نظرية مؤامرة، بل كيان حقيقي تتداخل فيه الأذرع العسكرية والأمنية مع القضاء والإعلام والمال، لنسج خيوط "دولة موازية" تختبئ خلف واجهة الحكم الرسمي، هدفها؟ حماية امتيازات النخب العميقة وقمع أي تغيير يهدد هيمنتها المطلقة. وليس هذا هو كل السر؛ فتحالف الظلّ هذا يتعايش مع رأسمالية طفيلية - "الكومبرادور" (Comprador) - هم حيتان المال المحليين الذين يبيعون الوطن بمكيال الرأسمالية العالمية - وهما معاً يشكلان ثنائياً خبيثاً؛ فالدولة العميقة تمسك بمقاليد القوة، والكومبرادور يفتحون الأبواب أمام السياسات الدولية لتنفذ إلى شرايين مصر كالدواء الفاسد

كان لنا أساتذة يُدركون مكامن الخطر، ويحذرون من تزاوج تلك السلطة الخفية مع رأس المال الطفيلي (الكومبرادور)، حتى لا تتحول البلاد إلى ساحة نهب منظم. فهذا التحالف الخطير يخلق دوامة فساد لا تنتهي؛ فالسلطة تمنح الكومبرادور  احتكارات اقتصادية (مشروعات البنية التحتية، صفقات الخصخصة) في مقابل تمويل شبكات الهيمنة، والمقايضة بمنح الشرعية الدولية للنظام في مقابل فتح الباب للسياسات الدولية (مثل شروط صندوق النقد) التي تزيد الفقر عبر رفع الأسعار وإلغاء الدعم.. والنتيجة؟ ثروات تتركز في أيدي أقلية فاسدة، وشعب يُحاصر بين مطرقة القمع (أجهزة الدولة العميقة) وسندان الجوع (سياسات الكومبرادور )، ووطن يُباع قطعة - قطعة تحت شعارات زائفة مثل "الإصلاح الاقتصادي"!  

هذه المعادلة ليست فساداً عادياً... بل آلة تدمير ذاتي تحوّل الدولة إلى غنيمة، والمواطن إلى ضحية! إنها ليست لعبة أو سلطة عابرة، هي ماكينة هيمنة معقدة، تُعيد تشكيل مصير البلاد من خلف الكواليس، وفك الشفرة يتطلب الغوص في أعماق هذا التحالف الأسود، حيث تُبادل النخب الحديدية والوسطاء الاقتصاديون الأدوار. والشعب هو من يدفع الثمن.

1.تشريح تحالف الظلّ الذي يلتهم مصر!

تختفي خلف واجهة الحكم الرسمي شبكة عنكبوتية خطيرة تسمى "الدولة العميقة" – ليست خيالاً بل حقيقة مروعة، فما هي؟ هي شبكة غير مرئية من جنرالات الجيش، رجال المخابرات والأمن، سادات القضاة، وإمبراطوريات الإعلام، تنسج خيوطها في دهاليز السلطة، وقد نشأ مصطلح "الدولة العميقة"  (derin devlet)في تركيا، لفضح تحالف العسكريين والمخابرات والمافيا لحماية العلمانية الكمالية، وفي مصر تحول المصطلح إلى "وحش ثلاثي الرؤوس"؛ إرادة سياسية موازية تقاوم الديمقراطية، وتحمي امتيازات النخب، وتسحق أي صوت معارض، أما شريكه الخطر فهم طبقة الرأسمالية الطفيلية، "الكومبرادور "؛ وهم ليسوا مجرد طبقة برجوازية فقط، إنهم وكلاء الرأسمالية العالمية داخل مصر، كبار رجال الأعمال الذين يبيعون الوطن بالمال لأن الرأسمالية هي وطنهم الواقعي، فيساهمون في استنزاف موارد البلاد لصالح القوى الخارجية، من خلال مهمتهم الأولى، وهي ضمان أمن المصالح الخارجية وتسهيل اختراق السياسات الدولية كسياسات البنك الدولي وصندوق النقد  –من تحرير الأسعار إلى خصخصة المياه – مقابل عمولات فاحشة تُدفن في بنوك الغرب. والمعضلة الأكبر، عندما يتزاوج "تنين السلطة" (الدولة العميقة) مع "أفعى المال" (الكومبرادور )، تتحول مصر إلى ساحة مفتوحة للنهب؛ فالأول يوفر التحصين الحديدي من قمع الاحتجاجات، وتزوير الانتخابات، وإسكات الصحافة، والثاني يقدم الرشاوى الذهبية من تمويل شبكات الفساد، وشراء الذمم والشرعية الدولية، وتمويل ترويج الأكاذيب عبر الإعلام.. ومعاً يصنعان "تحالف الهيمنة" الذي يحول أحلام المصريين في الديمقراطية والعدالة إلى سراب.

هذه ليست لعبة نظرية... إنها آلة سحق وطنية تعمل منذ عقود، فهل تنكشف أوراقها قبل أن تلتهم آخر أمل؟ 

2. تشريح بنية الدولة العميقة المصرية وآليات عملها

الركائز الهيكلية للدولة العميقة هي ثلاث ركائز رئيسية، الأولى هي العسكرة المؤسسية، التي تهيمن على 40% من الاقتصاد عبر شركات مثل "العاصمة الإدارية" و"المقاولون العرب"، مما يمنحها استقلالاً مالياً وسياسياً عن الحكومات المدنية، وتدريب وتوظيف الكثير من طليعة الشباب المصري (شباب وفتيات) عبر برامج "تأهيل قيادي" تزرع الولاء المطلق، في الأكاديميات والكليات العسكرية طالت حتى رجال القضاء وأئمة المساجد والتمثيل الدبلوماسي، ووثيقة السلمي (2011) التي أعفت موازنة الجيش من الرقابة البرلمانية تجسد هذه الهيمنة..

الركيزة الثانية هي الشبكات البيروقراطية، حيث تضم كوادر إدارية راسخة في الجهاز الحكومي تتبع "قواعد غير رسمية" في التعيينات والترقيات، مما يضمن استمرار السياسات رغم تغير الحكومات، وبعد ثورة 2011، تعمدت هذه الشبكات تعطيل العمل عبر التواكل في تنفيذ القرارات..

أما الركيزة الثالثة فهي الأدوات القمعية والإعلامية وتشمل؛ الأجهزة الأمنية التي تستخدم الترهيب أو العنف المباشر أو التواطؤ مع البلطجية، والقضاء الذي يشرعن إجراءات الدولة العميقة، كما في حل مجلس الشعب 2012، والإعلام الذي يروج لعقيدة الخطر الإسلامي أو لنظرية المؤامرة الخارجية لتبرير استمرار هيمنة العسكريين، مستخدماً في بعض الأحيان أساليب التشويه الأخلاقي.

والآليات الوظيفية للدولة العميقة تكمن في أمرين، الأول هو التلاعب بالانتخابات، عبر التحكم في اللجان الانتخابية وتوجيه النتائج لصالح مرشحي الدولة العميقة، أما الثاني فهو اختطاف الثورات الشعبية كما حدث بعد 2011، حيث حوَّل المجلس العسكري الثورة إلى "فترة انتقالية" تحافظ على الامتيازات القديمة، وتمنحها فرصة كبيرة لتسوية أمورها..

3.الكومبرادور: الوجه الاقتصادي للتبعية

يقوم دور الكومبرادور على ثلاث وظائف أساسية؛ الأولى، الوساطة الاقتصادية من كبار رجال الأعمال (مثل أولئك المتحالفين مع جهاز الصناعات العسكرية) يبرمون صفقات مع شركات متعددة الجنسيات، فهم ليسوا رجال أعمال عاديين، هم سماسرة عالميون وغالباً صفقاتهم تكون بضمانات حكومية مجحفة، مثل خصخصة الموانئ والطاقة بأسعار زهيدة، مع ضمانات حكومية (إعفاءات ضريبية 20 عاماً)، وعمولات تُحَوَّل إلى جزر فيرجن.. بينما يدفع الشعب فاتورة الخيانة.

والوظيفة الثانية، تمويل شبكات الهيمنة، بعمليات غسيل أموال سياسية من تمويل الحملات الانتخابية وشراء منصات إعلامية لتلميع مرشحي الدولة العميقة، مقابل حصولهم على احتكارات ذهبية وامتيازات ضريبية وعقود حصرية.

والوظيفة الثالثة، هي شرعنة التبعية، بغسل أدمغة الجماهير والترويج لسياسات الليبرالية الجديدة (خصخصة الخدمات، تقليص الدعم)، وتحويل النهب إلى واجب وطني مقدس، تحت شعارات مثل "الإصلاح الاقتصادي لتقليل العجز" في حين ترتفع أسعار الدواء، ويتم إلغاء الدعم، وشعار "جذب الاستثمارات لتنمية البنية التحتية" في حين يرتفع مؤشر الفقر، وتُحول 78% من أرباح المشروعات للخارج، والخيار أمام الشعب إما الخصخصة أوالإفلاس في حين الخزانة تسرق علنًا.

والمرعب هنا، أن الكومبرادور ليسوا رجال أعمال تحديدًا، بل هم وكلاء عالميون لصالح اقتصادات وسياسات عالمية، استطاعوا تحويل الجيش المصري من حامٍ للوطن إلى شركة مساهمة، وغيّروا لقب مصر من "أم الدنيا" إلى "أرض العبيد" حيث صنعوا دولة يملك فيها 1% من السكان ثروة سائر سكان الدولة! فمَثلهم كمثل دبّابير سامة، يبنون خلاياهم في جسد الوطن، ويُطعمون يرقاتهم من لحم الشعب.

4. تأثير التحالف على السياسات المصرية

السياسات الاقتصادية تسير وفق معادلة منح رجال الأعمال عقوداً خيالية بالمليارات (مشروعات البنية التحتية، طرق، كباري، مدن جديدة)، وهم يقدمون التمويل والدعم الإعلامي للنظام، والتغذية المشبعة لشبكات الفساد، والنتائج؛ اقتصاد ريعي يعتمد على 70% قروض دولية (صندوق النقد) والعقارات الفاخرة للصفوة، متجاهلاً القطاعات الإنتاجية، وتفاوت صارخ حيث 60% من المصريين يعيشون حول أو تحت خط الفقر، ويعيش 35% منهم في ظل الستر، بينما يبدأ تركيز الثروة في أيدي 4%، ويتحكم أقل من 1% من السكان في مصائر الثروة القومية.

اما السياسات الأمنية، فتستخدم الدولة العميقة خطاباً أمنياً يصنع الأعداء من عقيدة العدو المزدوج، حيث يجمع بين؛ تهديد الإسلام السياسي كخطر وجودي، ووهم المؤامرة الخارجية ككل الاحتجاجات مدفوعة بأجندات أجنبية! لخلق ذريعة لقمع المجتمع المدني تحت غطاء "الحفاظ على الأمن القومي"، ومن آليات التنفيذ تدريب أجهزة الدولة (الجامعات، النقابات، الهيئات) على ثقافة العسكرة من الانضباط الأمني، وتوظيف البلطجية كأدوات لقمع الاحتجاجات، تحت سمع الشرطة.

بينما سياسات السيادة وصنع القرار الخارجي، فالتبعية للغرب، وتحالف الدولة العميقة والكومبرادور يضمن الحفاظ على معاهدة كامب ديفيد رغم انتهاكات إسرائيل، ودعم السياسات الأمريكية في المنطقة، ومقايضة السيادة بالدعم بالقبول بشروط صندوق النقد الدولي (رفع الدعم، تحرير سعر الصرف) مقابل الحصول على قروض تُستخدم كليًا لتعزيز تحالف الظل والأجهزة القمعية.

تحالف الظل ليس سياسةً.. بل طاحونة بشرية، تطحن أحلام الشباب بين أحجار القروض الدولية ورفع الأسعار، وتحوِّل الوطن إلى ساحة مزاد علني تُباع فيها القضايا الوطنية بأرخص الأثمان، وتصنع نظاماً أقسى من الاستعمار، يسرق الثروات.. ويقتل الأمل! والسؤال المُحرم هو متى يدرك المصريون أن العدو الحقيقي لا الذي يعارض سياسات النظام، بل الذي يحمل صكوك البنوك في القاهرة؟ 

5. رحلة السرطان الذي أكل مصر! الدولة العميقة المعاصرة

ثورة 1952 أسست لنموذج "دولة الضباط"، حيث ركزت السلطة في يد العسكريين، وأخضعت الاقتصاد لسيطرة المؤسسة العسكرية عبر سياسة التأميم، وشكلت فيما بعد نواة رأسمالية الدولة، وكان الجرح الأول تحويل الجيش من واجبه المقدس نحو الوطن إلى ماكينة السلطة! ثم كان عصر مبارك (1981-2011) فاكتملت فيه ثلاثية الهيمنة؛ المؤسسة العسكرية وسيطرت على الاقتصاد عبر شبكة من الشركات، وبدأت سيطرة الكومبرادور  حيث نمت طبقة رجال الأعمال المتحالفة مع جمال مبارك (مثل أحمد عز) وتمت أكبر صفقات البيع البخس للقطاع العام، وتطورت الأجهزة الأمنية وتوسعت صلاحياتها بعد قانون الطوارئ، أما بعد 2011، فكشفت الثورة عن عمق الدولة العميقة حين أطاح المجلس العسكري بحكم الإخوان عبر تحالف أجهزة الدولة السيادية مع الكومبرادور  (تمويل حملة تمرد) والقضاء (شرعنة الانقلاب)، وأعادت التعديلات الدستورية (2019) وصاية الجيش على النظام السياسي

وهنا نتساءل لماذا ما بدأ كثورة ضد الاستعمار تحول إلى قمع داخلي أقسى من الاستعمار ذاته؟ ولماذا كل ثورة في مصر تلد ديكتاتورية أفظع من سابقتها؟ هذه ليست تأملات تاريخية.. إنها كشف حساب دموي يفضح كيف تتحول الأحلام إلى كوابيس!

6. إشكاليات الشرعية والتحرر

تكشف الدولة العميقة تناقضاً جوهرياً في مفهوم الدولة الحديثة؛ بين الشرعية الرسمية (الدستور، الانتخابات) والشرعية الفعلية (القوة الغاشمة)، وفي مصر يظهر هذا في تزييف الإرادة الشعبية عبر آليات "الديمقراطية المُسيطَر عليها"، مما يفسر أزمة الشرعية المستمرة، بينما التحرر من الهيمنة المزدوجة أو تحالف الظل يتطلب فضح التواطؤ بين الكومبرادور  والعولمة المفترسة، كما فعلت حركات ما بعد الاستعمار، ومقاومة الاختراق عبر مشروع وطني يعيد توطين الاقتصاد ويبني مؤسسات ديمقراطية حقيقية، وتجاوز الثنائيات الزائفة مثل "الإسلامي مقابل العلماني"، الذي تستغله الدولة العميقة لتحويل الصراع من مجابهة الفساد إلى صراع هويات، ومن الدروس المستفادة من 

تجربة أردوغان في تركيا 2007، تثبت أن تفكيك الدولة العميقة ممكن، لكنه يتطلب تحالفاً شعبياً عريضاً، وإصلاحاً مؤسسياً جذرياً، وقطع العلاقة مع التبعية الدولية.. 

الخاتمة: نحو تشريح تحرري

الدولة العميقة والكومبرادور في مصر ليسا مجرد "شبكات فاسدة"، بل هما آلية هيكلية لاستمرار التبعية واستنزاف الثروات، وتحالفهما ينتج نظاماً هجيناً يجمع بين القمع السياسي والنهب الاقتصادي، مع إضفاء الشرعية عبر خطاب أمني معادٍ للديمقراطية، والخروج من هذا المأزق يتطلب أكثر من تغيير حكومات؛ فهو يحتاج إلى ثورة ثقافية توافقية تعيد تعريف مفهوم السيادة، وإرادة سياسية تقطع حلقات التبعية الدولية، ومشروع تنموي يحول مصر من دولة ريعية إلى وطن منتج لأبنائه، مع ضرورة وجود التوافق الوطني فغيابه سيؤدي إلى واحد من سيناريوين: إما إطالة أمد المعركة، أو تحالف الرئيس مع الدولة العميقة ضد حلفاء الثورة، وهنا يكمن التحدي الأكبر لمستقبل مصر.
----------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش

من المشهد الأسبوعية

خيوط الظلّ.. الحكم من وراء الستار!


مقالات اخرى للكاتب

خيوط الظلّ.. الحكم من وراء الستار!