ما الذي يجعل الفن"خالدًا"، وما سر هذا الخلود؟ هل هو حجم الإنجاز، أم عمق التأثير، أم قدرة العمل على تجاوز سياقه الزمني ليحاكي الأجيال القادمة؟ أم هى عبقرية الفنان فى رؤية الواقع والتعبير عنه؟ في معرض "فنانون خالدون"، يبرز الخلود ليس كمكافأة للتميز، بل كخاصية متأصلة في الفن نفسه. كل خط، كل لون، وكل شكل يحمل في طياته شذرات من روح الفنان، تتجسد في المادة لتتخطى فناء الجسد. اللوحة في هذا السياق ليست مجرد قماش وألوان، بل هي وعاء يضم جزءًا من وعي المبدع، ينبض بالحياة كلما تأملها ناظر. إنها حوارٌ صامت بين الماضي والحاضر، يكسر قيود الزمن ويُعيد تعريف مفهوم الوجود.
يتجلى معرض الفنانين التشكيليين الخالدين في مصر لا كمجرد عرضٍ للأعمال الفنية، بل كفضاءٍ للتأمل الفلسفي العميق في ماهية الفن، جوهر الخلود، وتلاقي الروح الإنسانية مع أبعاد الزمان والمكان. إنه ليس معرضًا للوحات فحسب، بل هو مرآة تعكس أجيالًا من الشغف، الرؤى، والبحث الدائم عن الحقيقة والجمال.
عندما نتجول بين أعمال أسماء مثل حامد عبدالله ، إنچي أفلاطون، حسين بيكار، حسن سليمان، سيد عبدالرسول، سمير رافع، الدسوقي فهمى، وغيرهم من عمالقة الفن المصري، نشعر وكأننا نستمع إلى حوارٍ أزلي. تتجلى في أعمالهم فلسفات مختلفة للحياة والموت، للحب والفقدان، للطبيعة والبشر. تجد العين نفسها تتوقف أمام لوحة تحمل تفاصيل من الحياة اليومية في مصر القديمة أو الحديثة، لتدرك أن الهموم الإنسانية، التطلعات الجمالية، والأسئلة الوجودية لم تتغير كثيرًا على مر العصور. الفن هنا يصبح لغة عالمية، تتجاوز اللهجات والثقافات، وتتحدث مباشرة إلى الروح.
يعكس هذا المعرض أيضًا علاقة الفن بالهوية الوطنية والذاكرة الجمعية. فنانو مصر الخالدون لم يكونوا مجرد رسامين، بل كانوا مؤرخين بصريين، سجلوا بفرشاتهم تحولات مجتمعهم، آماله، وآلامه. أعمالهم هي بمثابة وثائق تاريخية وفنية في آنٍ واحد، تشهد على حقب زمنية مختلفة، وتحكي قصصًا عن التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي للبلاد. إنها دعوة للتأمل في كيف يصوغ الفن وعينا بهويتنا، وكيف يحافظ على ذاكرتنا الجماعية من التلاشي في غياهب النسيان.
في النهاية، لا يمثل معرض الفنانين التشكيليين الخالدين في مصر مجرد حدث فني، بل هو دعوة عميقة للتفكير. دعوة للتأمل في قوة الفن وقدرته على البقاء، قدرته على التحدث عبر الأجيال، ودوره كشاهد أمين على رحلة الإنسان في البحث عن المعنى والجمال. إنه تذكير بأن الخلود لا يكمن في البقاء الجسدي، بل في الأثر الذي نتركه، وفي القدرة على إلهام الروح الإنسانية لتبصر ما وراء المادة، لتلامس جوهر الخلود.
----------------------
د. سامى البلشى