أخذ صديقي بيدي ونحن نتمشى في أحد الشوارع الرئيسية القريبة من الشاطئ وقال "فلنُلق نظرة على معرض الكتاب"، عبرنا الطريق وسرنا بين صفين من خيام قماشية، صفت على أجنابها أرفف الكتب. لكل كتاب قرأته ذكرى تقتحمك حين تراه، تشعر أنك قابلت صديقًا عزيزًا عليك، يجذبك الغلاف ولا تستطيع تجاوزه.
عن بعد تراصت عدة كتب بغلاف وردي فاتح استخدم اللون الأسود في تصميم أغلفتها؛ العناوين وصورة نصفية للمؤلف. هذا وجه يصعب تجاوزه، بشعره الـمُرجل وشاربه المشذب وعينان تطلان من فوهة بندقية غضب، هكذا دائمًا أرى وجه غسان كنفاني (1936-1972).
عندما قرأت روايته "عائد إلى حيفا"، كتبت عنها مقالةً بعنوان "غسان كنفاني.. النقش بالسكين على لحم الوطن".. كان مؤلـمًا وصادمًا، فالطفل الذي فقده أبواه في زحام التهجير من يافا، وظلا يحلمان بالعثور عليه، وجداه بعد عشرين عامًا شابًا يافعًا وسيمًا، وبين اللهفة إليه والصدمة من رؤيته مرتديًا زي جيش الدفاع، تساءلا في ذهول "أهذا خلدون ابننا؟". ثم يدور حوار عن الوطن والهوية، ينتهي برفض خلدون الرحيل معهما، ليكون ذلك بمثابة رصاصة سكنت قلبيهما، لم يكن البيت وحده الذي سرقه اليهود، سرقوا خلدون، والذكريات، والوطن.
ما كل هذا الألم يا غسان؟!
هكذا هو، لا يتورع عن إلقاء القلم وإشهار المشرط في وجه القارئ، كما فعل مع الدكتور "ولسون" في غرفة العمليات، عندما كانت أخته فايزة بين الحياة والموت بسبب ولادة عسيرة. رفع المشرط في وجهه وهدده إن أصابها مكروه، نظر الطبيب الأسكتلندي نحوه وابتسم وراح يكمل عمله في هدوء بينما غسان في الزاوية يرتجف رعبًا، حتى إذا ما سمع صراخ المولود واطمأن على أخته، هدأ.
بقدر تمرده بقدر ضعفه، يقول غسان عن نفسه "حياتي سلسلة من الرفض، ولذلك استطعت أن أعيش.. لقد رفضت كل شيء".. ربما لهذا السبب ما زالت أصداء كلماته تعيش بيننا، وربما لأن آخرين قرروا الكتابة عنه خوفًا من تراكم تراب النسيان فوق وجهه. يقول محمود درويش في إحدى قصائده:
"تُنسى، كأنَّكَلم تَكُنْ
تُنْسَى كمصرع طائرٍ
ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى،
كحبّ عابرٍ
وكوردةٍ في الليل .... تُنْسَى"
بعد استشهاده، نشرت الكاتبة السورية غادة السمان (1942-2007)، أجزاء من رسائله إليها في الزاوية الخاصة بها بإحدى المجلات العربية، ثم قررت نشرها في كتاب.
الطريف في الأمر، أنها لا تملك إلا جانبا واحدا من الرسائل المتبادلة؛ رسائل غسان إليها، أما رسائلها هي فقد كانت ترسلها دون الاحتفاظ بنسخ منها في وقت لا كان فيه كمبيوتر ولا آلات تصوير، فضلاً عن عدم تصورها أنها ستحتاج رسائلها ذات يوم؛ كانت تكتب من قلبها ثم تضع الرسالة في مظروف وترسله مع باقة حب مَرّة ومع كؤوس مَرارة مَرّة.
تقول غادة، "رسائل تدخل في باب الوثائق الأدبية أكثر مما تصنف في باب الرسائل الشخصية بعد ما انقضى أكثر من ربع قرن على كتابتها (وقت صدور الكتاب عام 1992)، فخرجت من الخاص إلى العام".
وتكمن أهمية تلك الرسائل في أنها تلقي الضوء على الجانب الإنساني عند غسان المناضل، ولتؤكد أيضًا أن خلف كل شخصية نراها جوانب إنسانية خفية يشترك فيها مع آخرين.
في أحد مشاهد أفلام الحرب العالمية الثانية التي وثقتها السينما، تتمكن فرقة عسكرية ألمانية من احتلال إحدى المدن بعد مقاومة شرسة، سقط فيها الكثير من الضحايا من الجانبين، أعقبها جولة تفتيش عن الجنود المختبئين والذخائر والأسلحة داخل المنازل، وسط أجواء من الرعب والتوجس والقتل لأدنى سبب.
في داخل أحد تلك البيوت، وبينما يقوم الجنود بجولة تفتيشيه، تقع عين جندي ألماني على بيانو أنيق في أحد أركان المنزل، يُنَقِل الجندي نظره بين البيانو والبندقية التي يحملها، ووسط حالة من الوجوم والترقب، يعلق البندقية في وضع متقاطع على ظهره ويسحب كرسي البيانو، ثم يأخذ في عزف إحدى المقطوعات الموسيقية الشهيرة، عندها تتقدم سيدة المنزل في توجس وتقف عند زاوية البيانو وتغني بصوت مرتجف، ثم سرعان ما انسجم صوتها والموسيقى، تآلف الإنسان في الجندي المقاتل مع الإنسان في السيدة الضعيفة.
هذه جوانب إنسانية لا يمكن إنكارها. جوانب إنسانية يعيشها الجميع، وتعبر عنها غادة عن رسائلها بقولها: "اضبط نفسي وهي تكاد تتستر على عامل نرجسي لا يستهان به: الفخر بحب رجل كهذا.. إنني اعتقد أن كل أنثى تزهو (ولو سرًا) بعاطفة تدغدغ كبرياءها الأنثوي.."
نكمل المقال القادم..
-------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]