الثورات التكنولوجية من الأولي إلي الرابعة أثرت تاريخيا علي السياسة في عالمنا المتعدد، في الدول الأكثر تقدما، في شمال العالم، وجنوبه. كل طفرة تكنولوجية تنعكس علي السياسة والسياسيين بدءا من الصحافة الورقية، والإعلام المرئي والمسموع، من حيث تدفق المعلومات، وأثره علي في تطور الوعي السياسي والاجتماعي للأفراد، وطبقاتهم الاجتماعية، ومن ثم علي مفاهيم الحريات العامة، والفردية والوعي بمصالح الأفراد والطبقات الاجتماعية، والوعي بالمصالح الطبقية والفردي ، والتعبير عنها وتمثيلها حزبيا وفرديا . وأيضاً علي المؤسسات السياسية والأحزاب والنقابات في الدول الديمقراطية الليبرالية. ترتب علي ذلك تكيف المؤسسات والأحزاب مع هذه التطورات المتلاحقة. مع الثورة الصناعية الرابعة، تحول العالم الرقمي إلي مواقع وفضاءات للتأثير علي السياسة والسياسيين، ومن ثم يوظف غالبهم وسائل التواصل الاجتماعي في طرح وجهات نظرهم في المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعيةالمختلفة ، وفي الرد علي خصومهم السياسيين، ويقوم الأفراد والمجموعات الرقمية والمعارضة بالرد عليهم، والسخرية والهجاء والنقد. إلا أن الملاحظ أن هذا العالم الرقمي الموازي والمتداخل مع العالم الفعلي تحت هيمنة الشركات الرقميةالرأسمالية النيوليبرالية من خلال سيطرتها وامتلاكها للبيانات الضخمة Big Data ، ومن ثم إمكانية توظيفها، وفق مصالح هذه الشركات الرقمية الكونية، وللشركات الضخمة كونيا، من حيث حجب وبث بعض المنشورات والتغريدات والفيديوهات الوجيزة جدا وغيرها من المواقع والمنصات الرقمية، وعلي تحفيز أنماط من إستهلاك السلع والخدمات.
من هنا أثرت الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدي ، والبيانات الضخمة ، علي الدول والسيادة ، والنظام الليبرالي الديمقراطي ..الخ ، وعلي الأفراد ، من خلال التحفيز علي الاستهلاك المفرط ، وتسليع أنماط الحياة ، وتحول حرية الإستهلاك وكأنها حرية الحريات في الدول والمجتمعات الغربية الأكثر تقدما ! وتأثيرها علي السياسات الضريبية وأنظمة التأمينات الاجتماعية ، الصحة والمعاشات ، وبدل البطالة .. الخ .
من ثم أدت ثورة الاستهلاك المفرط إلي إلي ربط مفهوم الحريات الفردية والعامة بالقدرة الفعلية او المتوهمة من خلال الاقتراض علي إستهلاك السلع والخدمات .
في ظل الرأسمالية النيوليبرالية بات تخفيض الضرائب وسعر الفائدة والتأمين الصحي والمعاشات أحد ابرز الموضوعات السياسية ، وهو ما كرس برنامج ترامب السياسي مع قضايا الهجرة، ورفض التحول الجنسي . في السياسة الشعبوية النيوليبرالية – وظلاله الدينية - سعي ترامب بغرائبيته وسلوكه غير المتوقع إلي تجاوز تقاليد وحدود توزيع القوة بين السلطات في النظام الرئاسي ، وتدخله في بعض أعمال القضاء ، والهجوم علي الصحافة والأعلام ، وفصل عديدين في جهاز الدولة البيروقراطي الفيدرالي ، وتجاوزاته للتقاليد والأعراف السياسية والديبلوماسية إزاء بعض قادة الدول ، علي نحو مافعل مع زلينيسكي وبعض القادة الأفارقة. ومؤخرًا بتجديد هجومه علي السير صادق خان عمدة لندن خلال مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في اسكتلندا حيث أنتقد أداءه في إدارة العاصمة البريطانية قائلا :" لست معجبا بعمدة لندن .أعتقد أن أداءه كان سيئا للغاية. إنه شخص بغيض". في تصريح محرج سياسيا ، وخروج عن مألوف اللغة الديبلوماسية والسياسية !
أثرت الثورة الرقمية ، والذكاء الاصطناعي التوليدي علي الشعبوية النيوليبرالية مع ترامب من خلال إنشاء موقع له للتعبير عن بعض غرابته وطرافة سلوكه غير المألوف وتناقضاته، وذلك بعد حظره من تويتر ، ومنصة فيسبوك بعد هجوم أنصاره علي مبني الكابيتول عام 2021، وهو ما أدي إلي إنشاء موقع تروث سوشيال Truth Social من مجموعة ترامب ميديا تكنولوجي ( Trump Media &Technology ( التي أسسها ترامب في اول أكتوبر 2021 وقام ترامب بتوظيف الذكاء الاصطناعي التوليدي في الترويج وبث آرائه الصاخبة ، علي نحو ما تجسد في اصطناع فيديو للقبض علي الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق باراك أوباما للسخرية منه! من هنا أثرت الثورة الصناعية الرابعة علي الشعبوية النيوليبرالية ، وايضاً بعض الشعبويات التسلطية في جنوب العالم وبعض الدول العربية. ولكن ما مدي تأثير الثورة الرقمية ، والذكاء الاصطناعي علي الشعبويات الرقمية في بعض البلدان العربية ؟
من الملاحظ ان الشعبويات التسلطية في العالم العربي ، بعضها كان متأثرا ضمن أسبابه وسياقاته التاريخية بالتجربتين البيرونية في الأرجنتين ، والسالزارية في البرتغال ، إلا أن نمطا آخر من الشعبوية الدينية من أسفل في تونس ومصر، قبل وبعد الربيع العربي ، ومن أعلي بعد وصولهما الي السلطة والحكم ، ولهما سمات بعضها يختلف عن الشعبويات السلطوية ، وثمة تأثر وتوظيف للثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي في معارضاتهم بعد خروجهم عن سدة السلطة .
في البلدان العربية التي تسود فيها الشعبوية السلطوية ، وخاصة بعد الربيع العربي ؟ هل تقتصر الشعبوية علي بعض الأحزاب والقادة في السلطة والمعارضة في نظم سلطوية؟ أم هناك شعبويات وسط الجموع الرقمية الغفيرة وماهي سماتها ؟
يمكننا التمييز بين الشعبويات السلطوية في جنوب العالم من اعلي في السلطة ، وبين الشعبويات من أسفل وسط الجموع الرقمية الغفيرة، وذلك علي النحو التالي:
أولا: شعبويات الجموع الرقمية الغفيرة عربيا
أدت الثورة الرقمية إلي بعض من الانفجارات الشعبوية للجموع الرقمية الغفيرة، وفي تنشيط عمليات التعبئة علي الحياة الإفتراضية من بعض الساعين اليالقيادة، وتوجيه الأخرين، وبعضهم يقومون بتوظيف رهاب الأجانب "الاكزنوفوبيا"، والمهاجرين الطوعيين والقسريين بسبب الحروب الاهلية، او النزاعات الداخلية في سوريا والسودان وليبيا في مصر تحت دعاوي التأثير الهوياتي علي الهويات الوطنية ، علي مثال من يطلقون علي انفسهم الكيميتيون – اسم مصر الفرعونيّة – او من بعض الأقباط .
الشعبوية الرقمية تعتمد علي مابعد الحقيقة، او الأثارة، والأخبار الكاذبة، وتنميط تصوراتهم الهوياتية علي نحو يبدو حاملا لعرقية نقية، واختلاطا بالقومية المصرية، ويميلون الي اعتبار الهجرات المؤقتة، انها ستغدو دائمة، ناهيك عن ربط بعض المشكلات الاجتماعية كالتضخم، وارتفاع أسعار تأجير الوحدات السكنية، او شرائها بالمهاجرين السودانيين والسوريين واليمنيين والليبيين ..الخ .
الشعبويات الدينية من الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية ، التي تعتمد علي التعبئة الدينية ذات السند السياسي والدعوات الي اسلمة نظام الزي والمجال الخاص مدخلا لتديين المجال العام وترميزه بالحجاب والنقاب او السروال للرجال!
الشعبوية الدينية الرقمية العربية توظف وسائل التواصل الاجتماعي في تديين الجدل العام، ونقض سياسات وقرارات السلطات الحاكمة ، وتحويلها من الوضعي الي الميتاوضعي، من خلال النص المقدس، او السرديات الدينية التأويلية والتفسيرية حول المقدس، لفرض الثنائيات الضدية – الحلال والحرام- علي السياسات والقوانين والقرارات الحكومية والسلطوية ..
تميل الشعبويات الدينية العربية الي فرض السياجات الدينية علي المؤمنين بها، وذلك لتعبئتهم والهيمنة علي توجهاتهم العامة تجاه المختلفين مذهبيا عنهم - سنة وشيعة تجاه بعضهم بعضا – ومسلمين إزاء المسيحيين، وبعض بقايا اليهود في المغرب وتونس علي سبيل المثال .
إثارة النزاعات الطائفية احد أدوات الشعبويات الدينية، وذلك في مواجهة الآخر الديني والمذهبي والأهم أنها أداة في خلخلة التماسك والتكامل الداخلي والاستقرار السياسي للسلطة الحاكمة. وخلال بيئة الاضطراب الطائفي والديني تشتعل البيئة الداعمة للشعبويات الدينية والمذهبية .
من أكثر الشعبويات الدينية فعالية واثارة، الشعبويات الطائفية التي تركز علي البني الطائفية وتعتمد علي تضخيم الواقعات اليومية الماسة ببعض الطوائف من ممثلي طوائف آخري علي المثال اللبناني، وفي اليمن، وفي السودان من قبائل الوسط النيلي تجاه القبائل الأفريقية الدارفورية ، وتجاه قبائل شمال كردفان، وقبلها مكونات الجنوب السوداني القبلية الأفريقية والاستعلاء عليها. من ابرز أمثلة الشعبوية الطائفية الاعتداءات علي المدنيين العلويين، وكنيسة دمشق للروم الأرثوذكس، والقتال بين العشائر والدروز في السويداء مؤخرا .
مرجع استمرارية الشعبويات العربية منذ دولة مابعد الكولونيالية تتمثل فيما يلي :-
١- هشاشة المؤسسات السياسية السلطوية التابعة للحاكم الفرد ومراكز القوة حوله، وضعف المعارضات السياسية وأحزابها في صيغ المشاركة الشكلية في تركيبة النظام السلطوي، وإضعاف ومواجهة اية محاولات لظهور قادة سياسيين ذوي سند قاعدي شعبي في مواجهة القادة السياسيين الحاكمين.
٢- ظاهرة موت السياسة في العالم العربي أدت لوأد أية مساعي لخلق منظمات سياسية مدنية او أهلية مستقلة، وهو ما ادي الي موت السياسة، وغياب ثقافة سياسية ديمقراطية.
٣- نهاية السرديات الكبرى وعصر الآيديولوجيات الذي حسم مرحلة الحداثة لصالح مابعدها، او الحداثة العليا وفق مصطلح هابرماس، او عصر السيولة، وفق زيجمونت باومان، وهو ما أدي إلي تنشيط الشعبويات الدينية والمذهبية والطائفية السياسية العربية، استثمارًا لأنماط التدين الشعبي الوضعي وحمل بعضها علي السرديات التاريخية حول الدين وتأويلاته في تعبئة الجمهور من العوام والمتعلمين ، وذلك لضعف ومحدودية معرفتهم بالأصول والمتون الدينية المقدسة او سردياتها التاريخية وتأويلاتها الموروثة، واعتمادهم علي التدين الشعبي ومحمولاته الشفاهية ومروياتها وتداخلها مع الثقافة الشعبية وفلكورياتها.
من هنا تأثرت الشعبويات السلطوية ، والشعبويات الرقمية بوسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي علي نحو أدي إلي حالة من الفوضى الرقمية والتوهان التاريخي في بعض الدول العربية. ( وللحديث بقية ).
-----------------------------------
بقلم: د. نبيل عبدالفتاح
* نقلا عن الأهرام