28 - 07 - 2025

عقدة ٦٧

عقدة ٦٧

إنه وقبل الشروع فى عرض مقالى هذا فإن كلامى هاهنا هو محض رأى، فربما وافق الحق بتمامه، وربما قاربه فى أشياء وفارقه فى أخرى، فلا يؤخذ الكلام إلا على أنه رأى من كاتب اجتهد فى النظر والتبصر فيما حضر وفيما مضى، وليس تحت يديه مضبطة جلسات لديوان كذا، ولا مكاتبات وزارة كذا، ولا سجلات اجتماع كذا، لكنه كلام لن يخلو من حق وصدق تشهد به الوقائع المشاهدة، والأخبار المتواترة.

لقد كانت ١٩٦٧ انهزامًا، وانتكاسًا، وانكسافًا، مسّ الجيش، والسياسة، والأمة المصرية بأجمعها، غير أنه لم تطل بنا غشية الهزيمة، بل سرعان ما عادت إلينا أنفسنا، فقمنا على رأس الأربعين يومًا من النكسة فبادرنا العدو ببقايا ما عندنا من سلاح فأثخناه وأوجعناه، ثم كانت ملاحم حرب الاستنزاف وجدار الصواريخ، ثم كان العبور المعجز فى رمضان ١٣٩٣/ أكتوبر ١٩٧٣، ويحق لى أن أزعم أننا قد تداوينا مما أصابنا من مسّ العجز والوهن حين أطلقنا على العدو أول قذيفة بعد ٥ يونيو ١٩٦٧، ثم كان الشفاء التام فى يوم العبور وإرغام أنوف العدا، لكن بقيت ندوب تأبى التعافى من نكسة ٦٧، وهذه الندوب ترى أثرها أكبر ما ترى فى سير سياسة مصر الإقليمية والدولية من بعد حرب ٧٣ إلى يومنا هذا.

إننى أزعم أنه بعد انقضاء سنوات الحرب الست ما بين ٦٧ إلى ٧٣ قد رأى أهل السياسة فى مصر أنه ينبغى أن تكون الغاية الأولى لسياسة مصر هى ألا تتكرر ٦٧ أخرى، فحملهم ذلك على اتخاذ سياسة الانطواء عن الإقليم (الذى هو حِمَى مصر)، والعزوف عن الصدارة والتقدم فى السياسة العالمية بل العربية أخيرًا، ولعل هؤلاء الساسة وقد كانوا حديثى عهد بنكسة ٦٧ قد ظنوا أن النكسة ما وقعت إلا لطول مناوئة السلطة الناصرية فى مصر للغرب فى كل محفل، ولمناصرة ناصر الثورات والثائرين حيثما كانوا، ولعُلُوِّ كلمة مصر فى بلدان العالم الثالث، ولتحرك جيش مصر العربية لنجدة سوريا العربية، فظنوا أنه إذا تخففت مصر من تبعات رياستها فى العالمين العربى والإسلامى، وتغاضت عما لم يكن لها أن تتغاضى عنه، وقبضت أذرعها الطولى، وطوت أجنحتها، وكفت نفوذها فيما جاورها، ولم تُبدِ نفسها للكبار ندًّا بِنِدٍّ، وأغلقت دونها بابها، وانطوت على بنيها_ فربما كان ذلك فى رأيهم السبيل إلى السلامة من نكسات وهزائم أخرى أشد وأمضَّ!

وأزعم أن حُسن النية كان حاضرًا عند هؤلاء، وهم لا يُلامون على اجتناب الحروب، والتزام السلم، لكن كانت لتلك السياسة آفة، فإنهم حين نأوا بمصر عن أن تكون لها كلمتها المسموعة فى إقليمها المتاخم، طافت ثعالب البرية وضباعها تعيث فسادًا فيما حول مصر، وأشعلوها حرائق على أبواب البيت المصرى من شرق وغرب وجنوب، لكن كأن عقدة ٦٧ والخوف من تجدد النكسة قد أقعدت مصر عن النشاط للعمل، ومنعتها ملاقاة الأمر بما يستأهله من العُدة، وحالت دون إحباط سعى الساعين فى الحِمَى المصرى ولا أقول الحدود المصرية، وكأنما كان دستور هؤلاء الساسة المتوجسين من نكسة جديدة (خلينا قافلين علينا بابنا وكافيين خيرنا شرنا)، وهذا مثل يصلح لحياة هانئة وديعة فى حى شعبى بالقاهرة، أما فى السياسة الإقليمية والدولية فإنك إذا ما اشتعلت الحرائق فى ديار جيرانك، فلن ينجيك منها إغلاق أبوابك، بل سوف يجتاز الحريق كل أبوابك حتى يحرق جوف دارك، فدواء الحريق ليس إغلاق الأبواب، بل المبادرة إلى إطفاء حرائق الجيران، فتأمن ويأمنوا.

إننى أينما وليت وجهى أجد الناس من كل جنس ولون وملة (إلا المصريين) وقد بسطوا أذرعهم ووطؤوا لأرجلهم على حدود مصر، بينما قد لزمت مصر طول السكوت، وتركت للغرباء أن يقروا ما يكون وما لا يكون فى إقليمنا الذى طالما كان تحت سلطة الدولة المصرية فى العصور المختلفة، والذى ينبغى أن يكون اليوم حِمًى مصريًّا خالصًا، فإن سيناء لا يدافع المدافع عنها من رفح أو العريش، بل من قلب الشام، وبحيرة السد لا يدافع المدافع عنها من عند الشلال السادس فى أسوان ولا من معبر أرقين، بل من أرض الشلال الثانى والثالث فى "بجراوية ومروى" ، بل من أرض بنى شنقول أخذًا بالأحوط، ومطروح لا يدافع المدافع عنها من عند السلوم، بل من برقة والجبل الأخضر، فهذا هو حِمَى الدولة المصرية الذى أُبيح للأبيض والأصفر ولمن لا شية فيه!

لكأنى أسمع قائلًا جاهلًا أو متجاهلًا أو مستجهلًا يسأل: "يعنى عايزنا نحارب أمريكا؟!" فذلك أقول له: "اطّمّن، لا عاوزك تحارب أمريكا، ولا بنتها"، لكن أهل السياسة يعلمون أن  للسياسة درجات كثر آخرها الحرب، وما بين أولها وآخرها تجد مدارج ومسالك يكثر فيها الأخذ والرد، والترك والمنع، والوصل والقطع، والحيلة والمخاتلة، والتصريح والتعريض والتهديد، فبين كل هذه الدرجات يستطيع السياسى الأريب أن يظفر ببغيته من غير أن يقاتل الأمريكان ولا غير الأمريكان، أما ترك هذا العبث والإفساد على أبوابنا فربما لا يرى الجاهل به بأسًا لأنه لم يتعدَّ الحدود، لكن الراسخون فى فن السياسة وعلوم الأمن لا يتغافلون عن مثل هذا العبث فى حِمَى البلد ولو بعد ألف ميل من حدودها، ألست ترى بريطانيا وفرنسا تناصران أوكرانيا على روسيا وليس بينهما وبين روسيا حدود قائمة، ولا يزال المخلب الروسى بعيدًا قاصيًا منهما؟! لكنهما قد علمتا أنهما إن تركتا الروسى يطأ الحِمَى الأوروبى البعيد شرقًا، فيوشك بعد حين أن ينالهما مخلبه غربًا، فمن يرعى حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه، ثم إن إقامة هؤلاء وتطوافهم بالحدود المصرية هو استهانة بالدولة المصرية، واجتراء عليها، ونَيل من قدرها بين الدول، وإن طول العزلة المصرية، واستمرار الصمت يغرى بنا أعداءنا، ويطمع بنا غير أعدائنا، وذلك له عواقب وخيمة ربما تضاهى عواقب ٦٧ التى نحاول الفرار منها.
-----------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عقدة ٦٧