27 - 07 - 2025

الخطر الحقيقى على سوريا ولبنان

الخطر الحقيقى على سوريا ولبنان

دمشق فى خطر وكذلك بيروت ، وبعيدا عن قصص "دمشق لنا إلى يوم القيامة" وعاصمة بنى أمية وغيرها ، وما شاكلها وما عاكسها من شعارات وملاسنات تاريخية لا معنى لها فى الواقع ولا فى المستقبل ، فإن دمشق اليوم  ـ للأسف ـ  تحت رحمة غارات ونيران كيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، وقد يقال أنها كانت كذلك فى عهد "بشار" ، الذى لا يبكيه أحد عاقل ، وهذا صحيح تماما ، لكن دمشق انزلقت مع هروبه وبعده إلى هوة دمار سحيقة ، وانقضى ذكر الجيش السورى ، الذى جرى تسريحه قبل التغيير فى ملابسات لا تزال غامضة ، ثم جرى حله رسميا ، وإلغاء مبدأ التجنيد الوطنى العام ، تماما كما جرى فى العراق قبل عقود مع غزوة الاحتلال الأمريكى وتوابعها ، وانتهينا إلى انكشاف مرعب ، دمرت معه "إسرائيل" كل مقدرات السوريين العسكرية ذات القيمة برا وجوا وبحرا ، وصرنا أمام فصائل متناحرة ، وحملات استنفار وتكفير ومجازر ، تهدد بحرق ما تبقى من سوريا الحبيبة ، وتدمير وحدتها المركزية من حول العاصمة دمشق ، والاتجاه إلى تحويل البلد العربى المشرقى الأهم إلى كانتونات باسم "الفدرلة" واللامركزية وغيرها ، وإذكاء احترابات الدم الأهلية والطائفية والعرقية والقبلية ، واستنجاد أطراف مريبة بكيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، الذى دخل مباشرة بالنار على خطوط الدم .

وقد لا يكون هذا هو الوقت المناسب لتوزيع الاتهامات فى محنة سوريا ، فطلب النجدة من العدو "الإسرائيلى" ، الذى لايزال يحتل هضبة الجولان السورية بمساحة 1860 كيلومترا مربعا ، أضاف إليها احتلاله لمساحة تقارب 700 كيلومتر مربع فى جبل الشيخ والجنوب السورى ، مع فرض نزع السلاح العسكرى إلى جنوب دمشق ، والاستنجاد بالعدو المحتل خيانة لا ريب فيها ، لا تقل عنها خطورة سياسة الاستنجاد بالأمريكيين ، وطلب العطف من إدارة "دونالد ترامب" ومبعوثه إلى سوريا ولبنان "توماس  براك" ، الذى يقال أنه من أصول لبنانية بعيدة ، بينما هو فى السياسة "إسرائيلى" أكثر من "الإسرائيليين" أنفسهم ، و"براك" ـ كما هو معروف ـ سفير واشنطن فى تركيا ، التى حل نفوذها محل النفوذ الإيرانى المطرود من سوريا مع ذهاب حكم "بشار" الافتراضى ، لكن تركيا بحساباتها الذاتية المعقدة ، لا تميل إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع "إسرائيل" فى سوريا ، فوق أن الأطراف الخليجية الداعمة سياسيا واقتصاديا للوضع الحالى فى سوريا ، لا يخطر على بالها ولا على بال أحد ، أن تخاطر بشبهة مواجهة جدية مع كيان الاحتلال ، وبعضها منغمس إلى أذنيه فى اتفاقات "إبراهيمية" حليفة لكيان الاحتلال ، وآخرون يفكرون فى الالتحاق بالقطار ، ويسعون إلى توريط سوريا ذاتها فى هلاك التطبيع جزئيا أو كليا ، وبدعوى تنمية الاستثمار فى سوريا المنهكة بدمار 14 سنة من الحروب الداخلية والكونية ، بينما إسرائيل  ـ وأمريكا معها ـ  لها حسابات مختلفة ، فهى تريد إلحاق سوريا كلها بظل السيف "الإسرائيلى" ، ونشر الفوضى وإدامة الحروب الأهلية ، وإقامة "ممر داوود" من "السويداء" عبر "دير الزور" إلى منطقة شمال شرق سوريا حيث نفوذ الأكراد وجماعة "قسد" ، وتتعامل مع الوضع السورى كغنيمة حرب ، وكساحة مثالية للتقسيم الفئوى والطائفى والعرقى الذى تسعى إليه ، وتعتبر سوريا قلب شرق أوسطها الجديد ، ولا يردعها رادع عربى ولا إقليمى ، وتطبق المبدأ الاستعمارى التليد "فرق تسد" ، فهى لا تحب ولا تكره طائفة ولا فصيلا بذاته ، إلا بقدر ما يقدمه الطرف المعنى من فرص لتفتيت سوريا ، ومنع نهوض دولة عربية سورية جامعة من جديد ، فقد واتاها الظرف الذى لا تريد أن تضيعه ، وكما نصت وثيقة (استراتيجية إسرائيل فى الشرق الأوسط) المنشورة قبل أكثر من أربعين سنة ، فهى تسعى لإقامة خمس دويلات متناحرة فى سوريا ، يتلاشى معها أى خطر قد يأتيها من سوريا ، وخطة "إسرائيل" تحظى بتأييد دائم تلقائى من واشنطن ، وأيا ما كانت الإدارة جمهورية كانت أو ديمقراطية ، وقد يحلو لبعض العرب اسما ، أن يواصل التضليل ، وأن ينفخ فى تسريبات مصنوعة تدعى معارضة فى واشنطن لسلوك حكومة الكيان فى سوريا ، بينما المقاول " براك" قالها ببساطة ، وأقصى ما أبداه من "معارضة" لغارات "إسرائيل" المدمرة لمقار وزارة الدفاع السورية وبالقرب من القصر الجمهورى ، أن وصفها العجوز المخادع أنها جاءت فى "توقيت غير مناسب" ، ثم أضاف أنه لا بد من "محاسبة" الحكومة السورية على الانتهاكات ، رغم ما سبق من تصريحات "براك" المحتفية الداعمة المشجعة لسلطة دمشق ورفع كامل العقوبات عنها ، ثم زاد "براك" الأمر وضوحا وقطعا عند ذهابه إلى بيروت بعد دمشق ، وقال بصراحة "أننا ـ أى واشنطن ـ لا نستطيع إلزام إسرائيل بأى شئ " لا فى سوريا ولا فى لبنان .

كانت أقوال "براك" الثرثار كاشفة ، فليس لدى واشنطن أى اعتراض حقيقى على ما تفعله "إسرائيل" ، إنما هو تكامل وشراكة وتوزيع للأدوار ، وفى سياق تصور واحد حاكم ، فبرغم اختلافات ظاهرة فى الوضع الرسمى الراهن بين سوريا ولبنان ، إلا أن السياسة الأمريكية "الإسرائيلية" هى ذاتها ، فقد تظاهرت واشنطن فى البداية أنها ضد استمرار وجود "المقاتلين الأجانب" فى سوريا ، ثم سحبت اعتراضها على وجود غير العرب من "الشيشان" إلى "الإيجور"وعصائبهم الحمراء ، وأبقت الاعتراض فقط على شبهة وجود مقاومين فلسطينيين من "حماس" و"الجهاد الإسلامى" ، فلا تبالى واشنطن بإذكاء نيران القتل داخل سوريا ، وكل ما يهمها ألا يبقى أحد يفكر فى معاداة "إسرائيل" ولو بالنوايا ، ومبعوث العناية الأمريكية "براك" أعلن ذات مرة ، أنه لا يوافق على تقسيمات "سايكس ـ بيكو" فى المشرق العربى ، وفهم البعض أنه لا يشجع المزيد من التفكيك ، بينما كان المعنى الحقيقى هو العكس بالضبط ، فقد كانت "سايكس ـ بيكو" تجزئة للأمة إلى أقطار ، وعلى نحو ما جرى فى تقسيم سوريا الكبرى إلى أقطار سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ، لكن الواقع المشرقى فى العقود الأخيرة تدهور إلى ما هو أسوأ ، وكدنا ننتقل من باب "تجزئة الأمة إلى أقطار" إلى تفكيك لا نهائى ، تجرى فيه تجزئة الأقطار إلى أمم طائفية وعرقية وقبلية صغرى ، وهو ما تعمل عليه "إسرائيل" اليوم ومعها واشنطن ، وما يكشف الهدف الحقيقى لوساطات " براك" السامة ، وقد توالت جولاته إلى بيروت وبهدف واضح معلن للكافة ، بدا "براك" فيه أقل فى الوقاحة اللفظية من سابقته الصهيونية الفجة "مورجان أورتاجوس" ، الهدف ببساطة هو نزع سلاح "حزب الله" ، وإخلاء لبنان كما سوريا من أى معارضة باللسان أو باليد للتوحش الأمريكى "الإسرائيلى" ، وبدأ "براك" بخديعة صدقها بعض اللبنانيين ، وبدعوى مقايضة نزع سلاح حزب الله مقابل إجلاء الاحتلال "الإسرائيلى" فى الجنوب ، وحين فوجئ بردين متتابعين من الترويكا اللبنانية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب) ، كان فحواهما محددا ، ويطلب تقديم خطوة مشجعة بإنهاء الاحتلال ، وحاول "براك" تمييع القصة كلها ، وممارسة الضغط الأقصى على القيادات اللبنانية الرسمية ، وطرح مقولة أن سلاح حزب الله مشكلة داخلية لبنانية ، أما جلاء "إسرائيل" فلا حيلة لواشنطن فيه لأنها "لا تستطيع إلزام إسرائيل بأى شئ" ، وهكذا انفضحت الخدعة كلها ، فواشنطن تريد إشعال لبنان داخليا ودفع الجيش اللبنانى إلى صدام مسلح مفتوح مع "حزب الله" ، قد يكون الأخطر بمراحل من كل حروب لبنان الأهلية السابقة ، مع أن "حزب الله" ليس جماعة ميليشيا داخلية كما كان الأمر عليه فى ميليشيات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) ، التى لم يكن "حزب الله" طرفا فيها ، بل قام تكوينه المسلح فى مواجهة وبمناسبة الاحتلال "الإسرائيلى" ، ولم يكن أبدا ـ باستثناءات نادرة ـ مشكلة داخلية لبنانية كما يدعى "براك" ، الذى ينسق عمله "الدبلوماسى" مع العدوان "العسكرى" اليومى لكيان الاحتلال ، الذى ترفض واشنطن التعهد بوقفه أو بلجمه ، وتحشر لبنان الرسمى فى زاوية ودور وحيد مفترض ، أن يشن حربا داخلية ضد قوات "حزب الله" ومخازن صواريخه وسلاحه ، ودفع جماعات "إسرائيل" اللبنانية إلى الدخول فى الحرب ضد "حزب الله" وقاعدته الاجتماعية ، وإتاحة الحق لكيان الاحتلال فى الدخول على خط النار "الأهلية" مع حزب الله ، وإقامة حدود دم تفصل الطوائف اللبنانية ، وربما مد الاحتراب الطائفى إلى سوريا وحدودها السائبة مع لبنان ، وتغذية الثارات والأحقاد بين السنة والشيعة فى عموم لبنان وسوريا .

وقد يفيد التعقل واستدعاء الحكمة فى تجنب مصائر مفزعة تراد لسوريا ولبنان معا ، لكن الضمانة الأكبر تبقى فى كشف موارد الخطر الجامع ، وفى مواجهة خطط وقوات العدو "الإسرائيلى" الأمريكى ، وهم قادة وصناع الفتنة قبل وبعد فصائل وزعماء الطوائف والقبائل .
------------------------------------
بقلم: د. عبدالحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

الخطر الحقيقى على سوريا ولبنان