أولًا: التفسير
في هذه الآيات من سورة المرسلات، يقف القارئ أمام مشهد بالغ التأثير، يبدأ من أصل الإنسان وينتهي بوعيد للمكذّبين. يقول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ﴾، فيذكّر الإنسان بأصله، لا ليمتهنه بل ليوقظه، إذ خُلق من نطفة صغيرة لا شأن لها، ومع ذلك كُرِّم بالعقل والبيان. ثم يقول: ﴿ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾، أي في الرحم، وهو موضع آمن مهيأ لنمو الإنسان في مراحل دقيقة. ثم ﴿ إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾، أي إلى مدة زمنية محسوبة، لا تتقدم ولا تتأخر. ثم يختتم هذا المشهد بقوله: ﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾، في تقرير لقدرة الله وعنايته البالغة بكل تفصيلة في الخلق. ثم يأتي الوعيد الصريح: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، لمن أعرض عن هذه الآيات ولم يتفكر فيها. فكل آية من هذه الخمس تحمل نداءً للإنسان أن يتأمل، أن يرجع إلى ربه، وأن يتذكر أن وجوده لم يكن إلا بتقدير محكم من خالقه.
ثانيًا: الإعجاز اللغوي
في هذه الآيات تتجلى البلاغة القرآنية بأسلوب يلامس الفطرة. فلفظ "ماء مهين" يحمل شحنة معنوية قوية، إذ استخدم وصفًا يدل على الضعف والخسة، رغم أن هذا "الماء" هو أصل كل إنسان. ثم جاء التعبير "قرار مكين" وهو وصف محكم للرحم، ففيه قرار، أي استقرار وثبات، و"مكين" يدل على القوة والحفظ. ثم نُقلت المعاني في تدرج متوازن: "إلى قدر معلوم"، فكل شيء محسوب محدد. أما قوله: "فقدرنا فنعم القادرون"، فهو من أفخم أساليب المدح، حيث يبدأ بالفعل، ويعقبه المدح الجماعي الذي يعظّم الشأن. واللافت أيضًا تكرار عبارة "ويل يومئذٍ للمكذبين" في السورة، كناقوس إنذار، يكرّره السياق ليطرق سمع الغافلين كلما همّوا بالإعراض.
ثالثًا: الإعجاز العلمي
ما زالت هذه الآيات تثبت صدقها كلما تقدّم العلم. فالنطفة "المهينة" ليست إلا قطرة من السائل المنوي، تحتوي على مئات الملايين من الخلايا، واحد منها فقط يلقّح البويضة. وقد وصفها القرآن بدقة علمية في تعبير "مهين" لما فيها من ضعف ولما تحمله من احتمالات ضئيلة للبقاء. أما "القرار المكين"، فهو الرحم، الذي أثبت العلم أنه مجهز بحماية عالية، من عضلات، وإفرازات، ودرجة حرارة ثابتة، لتغذية الجنين وتطويره. ثم جاء قوله: "إلى قدر معلوم"، والذي يكشف عظمة التوقيت الإلهي، إذ إن الجنين يمر بمراحل محددة بدقة، وتكتمل أجهزته غالبًا خلال تسعة أشهر، وهي مدة الحمل المعروفة، وكل ذلك يجري دون أي تدخل بشري. ولو زاد أو نقص هذا "القدر المعلوم"، لاختلّ التكوين. هذه الدقة المذهلة في التقدير، من حجم الجنين، إلى نبضه، إلى تنفسه، إلى ولادته، تُعد شاهدًا دائمًا على صدق هذه الآية: "فقدرنا فنعم القادرون".
رابعًا: فائدة قرآنية
تغرس هذه الآيات في القلب شعورًا قويًا بالخضوع والدهشة، إذ لا شيء في خلق الإنسان جاء عبثًا. الأصل الحقير، والمكان المحفوظ، والمدة المضبوطة، والتقدير المتقن، كل ذلك يفضي إلى نتيجة حتمية: أن لهذا الخلق خالقًا عليمًا حكيمًا. فمن تفكر في نفسه، وعرف أصله، انكسر قلبه لله، وارتفعت روحه نحو خالقها. ومن أعرض، فقد ضل عن أبسط الحقائق. وهذا ما تختم به الآية: "ويل يومئذٍ للمكذبين"، تهديد لمن كذب هذه المعاني، لا بلسانه فقط، بل بقلبه وسلوكه وسيره في الدنيا كأن لا خالق له ولا نهاية تنتظره. لذلك، فالآيات ليست فقط للتذكير، بل لتربية الضمير، وتقويم السلوك، وإحياء الصلة بين الإنسان وربه من خلال التأمل في خلقه هو ذاته.
المصادر: (تفسير الطبري - تفسير ابن كثير - تفسير البغوي - التفسير الميسر – مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - التفسير البياني للقرآن الكريم – د. فاضل السامرائي - موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – الهيئة العالمية للإعجاز العلمي - أبحاث علم الأجنة – جامعة هارفارد - كتاب "الإنسان بين العلم والدين" – د. مصطفى محمود)
-----------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى