لم تعد واقعة "كوثر السودانية" في قرية أرمنا مجرد نزاع محلي، بل تحولت إلى مرآة تعكس خللًا أعمق في العلاقة بين السلطة الرسمية والمجتمعات المحلية المهمشة. فكوثر سودانية، تقوم يتهمها أهل قرية نوبية بممارسة أنشطة غير قانونية تمس النظام الأخلاقي للمجتمع النوبي، من بينها ترويج المخدرات وخرق الأعراف المحلية.
قام شباب القرية صوروا لقطات فيديو قالوا إنها توثيق لما يحدث في شقة السيدة كوثر، يظهر في اللقطات وجود عدد من الشبان من جنسيات إفريقية، إضافة إلى مشاهد تظهر الخمور. وفي المقابل، تنفي كوثر وتقول إنها مصطنعة، بل تقدمت كوثر ببلاغ تتهم فيه أحدهم بسرقة مشغولات ذهبية ومبلغ مالي. ورغم وجود الفيديو، إلا أن الشباب تم حبسهم احتياطيًا لمدة 15 يومًا على ذمة التحقيق، بينما بقيت السيدة كوثر طليقة، خارج القضبان، الأمر الذي أثار استياء واسعًا وتساؤلات حول معايير العدالة وتوازن التعامل بين الأطراف
هذه المفارقة تفتح الباب لفهم ما يجري في الهامش: من يملك الحق في الضبط؟ ومن تصغي له الدولة؟ وهل ما زال القانون أداة للعدالة، أم أصبح أداة لفرض المركز على الأطراف؟
الخلفية الثقافية والرمزية لقرى التهجير النوبية
منذ تهجير النوبيين بفعل بناء خزان أسوان، ثم لاحقا السد العالي، تشكل وعي جماعي نوبي يقوم على شعور بالاغتراب داخل حدود الوطن. ورغم أن قرى التهجير – مثل "أرمنا" – شيدت كمساكن بديلة، إلا أنها لم تستطع نقل النسيج الاجتماعي التقليدي بالكامل، ما خلف فراغا في منظومة الضبط المجتمعي. في هذا السياق، أصبحت مهمة الحفاظ على السلم الأهلي مسؤولية جماعية تقع على عاتق الأهالي أنفسهم، لا على مؤسسات الدولة، وذلك وفق أعراف صارمة تنظر إلى بعض السلوكيات باعتبارها انتهاكًا لكرامة الجماعة وهويتها
"كوثر" كرمز لانتهاك النظام القيمي النوبي
بحسب روايات الأهالي، لم تعد كوثر مجرد "شخص"، بل أصبحت رمزا لضياع القيم في مجتمع محافظ، ارتبط اسمها بممارسات مثل المخدرات والخمور والدعارة، التي تعد اختراقا صارخا للنظام الأخلاقي السائد. ومن هنا، لم يكن التحرك الشعبي ضدها عنيفًا أو فوضويا..
ويتجلّى هنا البعد الأنثروبولوجي بوضوح؛ إذ لم تُرَ كوثر كمواطنة عادية، بل كـ"غريبة" عن النظام الرمزي والثقافي المحلي – حتى قيل إنها ليست سودانية – في إشارة إلى افتقادها للانتماء الاجتماعي، والجذر القيمي الذي يحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع في قرى النوبة. وبهذا، فإن رفض المجتمع لها لم يكن موجهًا ضد فرد بذاته، بل جاء كفعل دفاعي لحماية "الحدود الرمزية" للقرية، تماما كما تدافع الجماعات التقليدية عن حدودها الثقافية والمعنوية.
استجابة الدولة: من ردع الجريمة إلى قمع الجماعة؟
المفارقة الصارخة أن الشباب الذين يقول المدافعون عنهم إنهم سلكوا المسار القانوني والسلمي هم من وجدوا أنفسهم خلف القضبان. من وجهة نظر العديد من النوبيين، يعد هذا شكلاً من أشكال "التمييز الممنهج"، حيث يكافأ الخارجون عن النظام القيمي بالمساندة أو التغاضي، بينما يعاقب من يسعى إلى حماية السلم المجتمعي من داخل الأطر القانونية.
وهنا يطرح سؤالا أنثروبولوجيا محوريا: من يملك الشرعية الأخلاقية؟ هل هي الدولة بمؤسساتها الحديثة، أم الجماعة بتقاليدها وأعرافها الراسخة؟ تميل الدولة الحديثة إلى احتكار العنف المشروع والشرعية القانونية، بينما ترى المجتمعات التقليدية – كالمجتمع النوبي – أن لها حق الضبط الأهلي للحفاظ على حدود الأخلاق العامة ونظامها القيمي الخاص.
الديناميات الطبقية والسلطوية: من يدعم "كوثر"؟
يشير الأهالي إلى أن كوثر "مسنودة من الكبار"، في إشارة إلى وجود حماية أو تغطية من أطراف نافذة. هذا الاتهام يفتح الباب أمام تساؤلات حول شبكة سلطوية موازية، تتقاطع فيها المصالح الشخصية مع السلطات الرسمية، على حساب الفئات الهامشية. ويمكن فهم هذا السياق من خلال منظور بيير بورديو، الذي يرى أن رأس المال الاجتماعي يمكن أن يستخدم للتحايل على الأعراف والقوانين، وتوظيف النفوذ لاختراق النظام الاجتماعي المحلي.
الحراك النوبي كأداة مقاومة ثقافية
الحراك النوبي ليس طارئًا أو رد فعل عابر، بل هو امتداد لمطالب تاريخية بإعادة الاعتبار إلى الهوية النوبية، والدفاع عن الخصوصية الثقافية، ورفض التهميش البنيوي. من احتجاجات "الدفوف" الرمزية إلى قضية أرمنا، يتضح أن النوبة ليست مجرد جغرافيا نائية، بل فضاء مشبع بوعي جمعي قادر على المقاومة السلمية متى ما شعر بانتهاك قيمه أو تهديد نسيجه الاجتماعي.
.قضية "كوثر" في أرمنا ليست فقط قضية جنائية أو اجتماعية، بل مرآة لصراع أعمق بين الهامش والمركز، بين التراث والحداثة، بين القانون الرسمي والأعراف غير المكتوبة. ومن هنا، فإن إنصاف شباب أرمنا هو إنصاف لمجتمع كامل يسعى للحفاظ على كرامته. وإذا تجاهلنا هذه الإشارات الثقافية، فإننا لا نخاطر فقط بالعدالة، بل بتماسك المجتمع نفسه
بعد قصة كوثر ، نفذ رجال مجلس مدينة ومركز دراو حملة موسعة على الشقق التي تدار كمقاهٍ وكافيهات بالمخالفة للقانون، والتي يشتبه في استخدامها لترويج وبيع الخمور والمواد المخدرة. وقد أسفرت الحملة عن غلق وتشميع عدد من هذه الشقق، في خطوة تعكس حرص الجهات المحلية على حفظ الأمن والانضباط المجتمعي.
رسالة المستشار محمد عوض نموذجا
رغم ما أثير حول تصرفات بعض شباب قرية أرمنا، إلا أن الحقائق تظهر أنهم لم يلجأوا للعنف أو الفوضى، بل بدأوا بما هو قانوني وسلمي. فقد تقدم المستشار محمد عوض، وهو من أبناء المنطقة، بطلب رسمي موجه إلى:
• مدير إدارة التفتيش والرقابة بنصر النوبة
• مدير إدارة التراخيص والمخالفات
• مدير إدارة الأملاك – مدينة نصر النوبة
• مدير إدارة التموين – نصر النوبة
وذلك للاستعلام عن الوضع القانوني للسيدة كوثر، التي تمارس نشاطا تجاريا مخالفا وغير مرخص. وقد تضمن الطلب استفسارات واضحة، منها:
- ما إذا كانت كوثر تمتلك أو تستأجر أي محل بشكل قانوني.
- موقفها من التراخيص التجارية، وهل تملك ترخيصا لمزاولة النشاط.
- ما إذا كانت هناك مخالفات مسجلة عليها من قبل إدارة الرقابة.
- مدى التزامها بالضوابط التموينية.
وقد اختتم المستشار خطابه بتأكيده على ضرورة تطبيق القانون وصيانة السلم المجتمعي، مشيرا إلى أن التجاهل الإداري لمثل هذه الأنشطة هو ما يخلق التوترات المجتمعية ويقوض الثقة في الدولة.
إدراج هذه الوثيقة ضمن السياق يكشف أن الشباب والأهالي لم يتجاوزوا القانون، بل حاولوا استخدامه، ولما قوبلوا بالتجاهل – كانت ردة الفعل دفاعا عن كيانهم الاجتماعي، لا تمردا على الدولة.
"الموقف من إخوتنا السودانيين: احترام متبادل عبر التاريخ"
من المهم التأكيد أن هذه الواقعة لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن موقف عدائي تجاه إخوتنا السودانيين المقيمين في نصر النوبة أو في أي مكان آخر من مصر. فالعلاقات بين النوبيين والسودانيين ضاربة في العمق والتاريخ، قائمة على حسن الجوار والمصير المشترك، وممتدة منذ ما قبل التهجير وبعده.
لطالما كان السودانيون المقيمون بيننا في قرى النوبة جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي، وما لمسنا منهم إلا الاحترام والتقدير. وما حدث في قرية أرمنا يعد تصرفا فرديا من سيدة لم تراعِ حرمة الأرض التي احتضنتها، ولم تقدر نعمة الاستضافة، وهذا ما أثار حفيظة الأهالي، ليس لكونها "سودانية" كما يروج البعض، بل لأنها خرقت قواعد السلم الاجتماعي والانضباط الأخلاقي الذي يحكم حياة المجتمعات المحلية.
لذلك نرفض تماما أي محاولات لتحوير القضية إلى صراع قومي أو عنصري، ونحمل المسؤولية للمخطئ، لا لانتمائه، بل لأفعاله
استمرار حملات غلق وتشميع المحال والمقاهي غير المرخصة التي يديرها وافدون
في إطار تنفيذ تكليفات اللواء دكتور إسماعيل كمال، محافظ أسوان، بشأن تكثيف الحملات الميدانية على مدار اليوم – صباحًا ومساءً – بمختلف المراكز والمدن، لمواجهة المحال والمقاهي والكافيهات المخالفة وغير المرخصة، وخصوصًا تلك التي يديرها وافدون من جنسيات إفريقية دون التزام بالقوانين المحلية، تواصل الوحدات المحلية تنفيذ قرارات الغلق والتشميع بكل حزم.
ففي مركز ومدينة إدفو، قاد رئيس الوحدة المحلية عاطف كامل حملة مكثفة أسفرت عن غلق وتشميع 11 محلًا وكافيها مخالفا. وقد شارك في الحملة كل من نواب رئيس المدينة، رؤساء الأحياء، مركز إصدار التراخيص، الإدارة الصحية، ومكتب العمل، حيث تم اتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين.
وفي كوم أمبو، نفّذت الوحدة المحلية برئاسة طه حسين قرار فصل التيار الكهربائي عن 6 محال خالفت توقيتات الغلق المحددة.
أما في نصر النوبة، فقد قامت الوحدة المحلية برئاسة محمد عبد العزيز بغلق وتشميع 15 محلًا وكافيهًا في نطاق قرية خريت (1)، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة حيال أصحابها.
كما واصلت الوحدة المحلية لمركز ومدينة دراو، بقيادة سيد سعدي، حملاتها المستمرة، حيث تم غلق وتشميع محلين اثنين مخالفين.
وفي مدينة أسوان، نفذت الوحدة المحلية بقيادة إبراهيم سليمان حملات على نطاق أحياء جنوب، شرق، وغرب، أسفرت عن إغلاق وتشميع 15 محلًا ومقهى مخالفًا، بمشاركة واسعة من الجهات المعنية.
تأتي هذه الحملات ضمن جهود الدولة لحماية الأمن المجتمعي وضبط الأنشطة التجارية المخالفة، خصوصًا تلك التي تُدار خارج إطار القانون، بما يضمن الاستقرار والنظام العام.
ليست حالة معزولة: بلاغات في أماكن أخرى أيضًا
المشكلة لم تعد محصورة في نصر النوبة بأسوان فقط، بل لها امتدادات واضحة في مناطق مثل أرض اللواء والبرجيل وفيصل.
وقد روت (م- أ) مقيمة في منطقة فيصل، قالت من واقع تجربتي الشخصية، نشأت وسط أسرة سودانية كانت تسكن في بيت والدي، وتربيت معهم منذ طفولتي. على مدار ثلاثة أجيال، لم أر منهم سوى كل خير- كانوا مثالا في الطيبة، والتعاون، والاحترام، والإنسانية، وكانوا دوما جزءا من نسيج مجتمعنا المصري.
لكن ما لاحظته مؤخرا، ويتحدث عنه كثير من السكان، هو أن بعض الوافدين الجدد من السودان، بعد الحرب الأخيرة، يختلفون في سلوكهم وتفاعلهم مع المجتمع المحلي. تسود بينهم – حسب الشكاوى – لهجة متعالية، ونزعة للعزلة والتعامل بشراسة غير مألوفة، مما أثار القلق في بعض الأحياء التي استقروا فيها بأعداد كبيرة.
ومن بين ما أثار استغراب الأهالي، إنشاء بعضهم لمدارس خاصة لا ترفع العلم المصري ورفع العلم السوداني وظهور لافتات على بعض المقاهي مكتوب عليها "ممنوع دخول المصريين"، وهي ممارسات غريبة عن قيم التعايش، وتشعر البعض بالرفض داخل وطنهم.
إلى جانب ذلك، ساهم الإقبال الكبير من بعض هؤلاء الوافدين على استئجار وشراء العقارات في رفع أسعار الشقق والمحلات التجارية بشكل ملحوظ. وقد أدى ذلك إلى تغير في سلوك بعض الملاك المصريين، حيث قاموا بإخلاء عدد من الأسر المستأجرة بنظام الإيجار الجديد، طمعًا في تأجير وحداتهم بأسعار أعلى، مما خلق نوعًا من الإزاحة السكنية القسرية للمواطنين المصريين.
هذه المظاهر لا يمكن تعميمها على الجميع بطبيعة الحال، لكنها تستدعي تدخلًا من الدولة لتنظيم العلاقة بين السكان المحليين واللاجئين، بما يضمن احترام القانون، وحماية التماسك الاجتماعي، ومنع أي انقسامات تهدد الاستقرار.
وتقول السيدة( أ- أ ) من سكان أرض اللواء: لم تقتصر على قرية أرمنا أو نصر النوبة فقط، بل وردت بلاغات من أهالٍي في مناطق أخرى مثل أرض اللواء والبراجيل، تؤكد وجود أنشطة مشابهة ترتبط بها في تلك الأماكن، تتعلق بتأجير شقق تستخدم في تقديم الخمور والممنوعات بطريقة مخالفة للقانون.
هذا المعطى يعزز الشكوك حول وجود نمط متكرر لسلوك منظم وغير قانوني، ويؤكد أن القضية تستحق متابعة مركزية من الجهات المختصة، وليس فقط على مستوى محلي أو قروي
وأنا من المتابعين لشؤون اللاجئين في مصر عبر منصات التواصل الاجتماعي، وقد لفت انتباهي وجود مواقف نقدية صريحة من شخصيات سودانية محترمة، تسعى إلى تقويم سلوك بعض الوافدين السودانيين في مصر، وتحرص على توجيههم ليكونوا سفراء مشرفين لبلدهم، بما يعكس الصورة الحقيقية للشعب السوداني المعروف بالأصالة والاحترام.
إذا ثبت أن هذه الوقائع متشابهة، فالأمر لم يعد مجرد "مخالفة محلية" بل قضية أمن مجتمعي تستوجب تعاون الجهات الرقابية في أكثر من محافظة
لابد من إيلاء النوبة اهتماما حقيقيا، بدلًا من الاستمرار في تهميشها أو تجاهل قضاياها. الحفاظ على التنوع الثقافي في مصر ليس ترفا، بل ضرورة وطنية لحماية الهوية الجامعة واحترام المكونات الأصيلة للمجتمع. ومن هنا، فإن اللغة النوبية، باعتبارها أحد أهم ملامح هذا التنوع، تستحق الاعتراف والرعاية لا التهميش أو المحو.
ومن هذا المنطلق، نطالب بأن تكون اللغة النوبية ضمن المواد التي تدرس في كلية الدراسات الإفريقية، تماما كما نولي اهتماما كبيرا باللغات الإفريقية الأخرى، لأن النوبة ليست فقط جغرافيا، بل تراث ولغة وثقافة عريقة.
ونتمنى أن تكون هذه الأزمة بداية حقيقية لمرحلة جديدة من الإنصاف، وإعادة الاعتبار للهوية النوبية في السياسات الثقافية والتعليمية.
-----------------------------
بقلم: إيمان النقادي
* باحثة بالانثروبولوجيا الثقافية