- الكنيسة ترفض الانفصال باسم العقيدة والمجتمع يطالبهن بالصبر وأجسادهن تدفع الثمن..
- نجيب جبرائيل: لائحة 2008 جردت النساء من حق الطلاق ومشروع القانون الجديد يعيد الاعتبار لضحايا الزواج القسري
- القس رفعت فكري: الكنيسة لا تلزم أحدا بالبقاء في علاقة مؤذية.. ولدينا مشروع قانون يعترف بالعنف كأحد أسباب الانفصال
بين جدران الكنيسة وأحكام المجتمع، تعيش نساء مسيحيات معلقات في زواج لم يعد يحتمل، يواجهن الألم وحدهن، ويصطدمن بجدار صلب من الرفض الكنسي لأي طلب بالطلاق.. في حالات العنف الجسدي والقتل.. هؤلاء النساء لا يسألن سوى الحق في النجاة، لكن الطريق إلى ذلك يبدو مغلقا أمامهن باسم العقيدة..
في العقيدة المسيحية الزواج سر مقدس لا يفك إلا بالموت أو الزنا، بحسب ما تنص عليه اللائحة الكنسية المنظمة للأحوال الشخصية، لكن هذا النص الجامد لا يأخذ في اعتباره تعقيدات الواقع، ولا يعترف بما هو أبعد من الخطايا الجسدية: الإهانات اليومية، التهديد، الضرب، الخيانة النفسية، وحتى القتل أحيانًا. وفي وقت يزداد فيه العنف الأسري انتشارا، تظل النساء المسيحيات عاجزات عن اتخاذ قرار قانوني بالانفصال، لأن الكنيسة لا ترى أن "العنف" سببا كافيا لفسخ الرباط الزوجي..
(نساء عالقات في زواج ميت)
داخل المحاكم الكنسية ترفض طلبات كثيرة مقدمة من نساء يطلبن الطلاق بعد سنوات من الإهانة والانتهاك، لأن الزوج ببساطة "لم يزني". تصرخ واحدة منهن في عريضة الدعوى: "هو بيكسر ضلوعي كل يوم، لازم يغتصبني أو يقتلني عشان أبقى حرة؟".. لكنها لا تجد في القانون الكنسي ما ينصفها.. تخرج محطمة من مكتب الكاهن أو القاضي الروحي لتعود إلى بيت هو سجن بكل ما تحمله الكلمة من معنى..
يضاف إلى العجز القانوني عجز اجتماعي. في مجتمع يقدس مؤسسة الزواج. توصم المرأة التي تطلب الطلاق بالخطيئة وكأنها هي من خربت بيتها لا من استبيحت كرامتها فيه. تنصح بالصبر تلام على "قصر النفس"، يقال لها "كل الستات بتستحمل" حتى لو كانت حياتها في خطر.. في بعض الحالات تصل المرأة إلى الانهيار النفسي الكامل وفي حالات أخرى، للأسف، تصل إلى الانتحار..
(الانفصال غير المعترف به)
البعض يحاول الالتفاف على العقبة بالمطالبة بـ الانفصال الجسدي.. أو ما يعرف بـ"الطلاق العملي".. وهو انفصال الزوجين في المسكن والمعيشة دون الطلاق الكنسي الرسمي، لكن هذا الحل لا ينصف النساء أيضا، لأنه يتركهن معلقات قانونيا: لا يستطعن الزواج مجددا ولا يستطعن الحصول على نفقة رسمية أو حضانة أطفال في كثير من الأحيان، ويظلن تحت سلطة زوج لا يزال الكنيسة تعتبره "رب بيتها الشرعي"..
(صرخات صامتة داخل الكنيسة)
الملف لا يخلو من محاولات إصلاح. هناك رجال دين يعترفون صراحة بأن اللائحة الكنسية الحالية، خاصة لائحة 1938 لم تعد صالحة لحجم المأساة، وهناك مبادرات لدراسة حالات العنف المنزلي كأسباب كافية للطلاق لكن هذه المحاولات تصطدم أحيانا برفض المجمع المقدس أو تهميشها داخل لجان مغلقة تدار ببطء شديد ولا تصل إلى نتيجة ملموسة..
في حديث سابق قال أحد الكهنة المنفتحين على التطوير: "لا يعقل أن نطلب من سيدة مضروبة أن تظل زوجة صالحة لرجل قاتل.. يسوع لم يأت ليزيد القيود بل ليحرر الناس إذا تحول الزواج إلى عبودية فقد روحه المقدسة"..
النساء العالقات لا يعانين فقط من الحرمان من الطلاق. بل يعانين من تدهور نفسي عميق تشير شهادات بعضهن إلى أعراض اكتئاب مزمن و نوبات هلع رغبة في إيذاء النفس، بل وهواجس انتحارية بينما تصمت الكنيسة، ويصمت القانون وتلوذ الضحية بالخوف والعار.
أخصائيات نفسيات يتحدثن عن مذبحة صامته لنساء يصرخن بلا صوت ويعشن تحت قهر مزدوج ديني واجتماعي، إحداهن علقت: النساء دول بيتاكلوا من جواهم وفي الآخر لو واحدة ماتت أو انتحرت، بنعمل لها قداس ونقول كانت مؤمنة.
( الطريق إلى الإصلاح بطيء)
في السنوات الأخيرة بدأت الكنائس المسيحية في مصر تتحدث عن مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية، لكن المشروع لم ير النور حتى الآن، ولا يزال يراوح مكانه بين لجان الدراسة والمراجعة وحتى إن خرج لا أحد يضمن أن يكون منصفا للنساء، أو أن يعترف بالعنف كشكل من أشكال الهدم الكامل للحياة الزوجية..
في الوقت نفسه تصر الكنيسة على أن الإصلاح لا بد أن يحترم التعاليم الإيمانية وهو ما يفتح بابا للسؤال: هل يمكن للرحمة أن تتصالح مع العقيدة؟ وهل يمكن للكنيسة أن ترى جراح النساء كأسباب روحية حقيقية للطلاق لا مجرد وقائع قانونية صارمة؟
بحسب المستشار نجيب جبرائيل ميخائيل، رئيس محكمة الأحوال الشخصية الأسبق ورئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، فإن جذور الأزمة تعود إلى لائحة 1938 التي أقرها المجلس الملي العام، والتي كانت تتيح الطلاق في ثمان حالات، من بينها الزنا، والعنف الجسدي، والإيذاء الجسيم، وتغيير الدين، والعجز الجنسي. لكن في عام 2008، ألغى البابا شنودة هذه البنود، وأبقى فقط على سببين للتطليق: الزنا أو تغيير الديانة. ومنذ ذلك الحين، صارت المحاكم الكنسية لا تعترف إلا بهذين السببين.
ورغم ما يمثله هذا التشدد من أزمة حقيقية، يشير جبرائيل إلى وجود مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية يناقش حاليا في مجلس النواب وقد انتهت ملامحه بالفعل، وقد يصدر في القريب حسب تعبيره. ومن أبرز ما يتضمنه المشروع هو استحداث أسباب جديدة للتطليق، منها العنف الجسدي والإيذاء النفسي والهجر، بشرط أن تمر فترة زمنية على الانفصال: ثلاث سنوات للأزواج من دون أطفال، وخمس سنوات إذا كان لديهم أطفال.
ويعترف المستشار جبرائيل بأن تأخر إصدار القانون – الذي بدأت مناقشاته منذ عهد البابا شنودة – أدى إلى تفاقم أزمات الطلاق، وتسبب في مشكلات معقدة مثل تغيير المذهب أو الخروج من الدين كوسيلة للالتفاف على القواعد الكنسية الصارمة، ويصف هذه الظاهرة بأنها "مافيا" تدفع ببعض النساء والرجال إلى مغادرة الطائفة أو إعلان تغيير ديانتهم، فقط للهروب من الزواج الذي لا يجدون فيه مخرجا.
ورغم محاولة الكنيسة معالجة الخلافات الزوجية عبر المجالس الإكليريكية وهي لجان مشكلة من أسقف وكهنة ومستشار قانوني ، فإنها لا تملك سلطة ملزمة بل تسعى فقط لمحاولات الصلح وفي حال تعذر ذلك يحال النزاع إلى المحكمة، لكن الحكم القضائي لا يلزم الكنيسة بإعطاء تصريح زواج جديد ما لم يكن متوافقا مع الشروط الكنسية.
أما عن أسباب تزايد حالات القتل والانتحار المرتبطة بالنزاعات الزوجية، فيرى جبرائيل أنها تعود في الأساس إلى اختيارات خاطئة من البداية، لا إلى موقف الكنيسة، وإن كان تأخر الإصلاح التشريعي قد ساهم بشكل غير مباشر في تفاقم المأساة.
ويختم بالإشارة إلى مادة جديدة في مشروع القانون المرتقب تعرف بـ"الزنا الحكمي" مادة 50 والتي تعتبر المراسلات أو التصرفات التي تدل على الخيانة كافية لطلب الطلاق حتى دون إثبات وقوع الزنا الفعلي، ما يمثل تغييرا جذريا في مفهوم الرباط الزوجي داخل المسيحية المصرية.
(تطليق وليس طلاقا)
يؤكد القس رفعت فكري، الأمين العام المشارك بمجلس كنائس الشرق الأوسط، أن المسيحية لا تعترف بالطلاق بمعناه المعروف في الشرائع الأخرى، وإنما تنظم الكنيسة "التطليق" وفق معايير عقائدية دقيقة. وقال: الطلاق بالإرادة المنفردة موجود في اليهودية والإسلام، أما المسيحية فلا يوجد بها طلاق، بل هناك حالات تطليق تنظر فيها الكنيسة، وفقا للائحة قانونية ملزمة أمام القضاء."
وأشار فكري إلى أن اللائحة الحالية لا تعترف إلا بالزنا كسبب مباشر للطلاق، ما يجعل حالات العنف الجسدي أو النفسي غير كافية وحدها لاتخاذ قرار بالانفصال الكنسي، لكنه أبدى تفاؤله بمشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية الذي صاغته الطوائف المسيحية الثلاث، مشيرا إلى أنه يتضمن بنودا جديدة تعالج مشكلات مزمنة وعلى رأسها العنف الأسري.
وأوضح أن الكنيسة لا تلزم النساء أو الرجال بالبقاء في علاقات مؤذية، بل تتعامل مع الحالات من خلال لجان أسرية تضم رجال دين ومستشارين قانونيين وأخصائيين نفسيين. وأضاف: دور الكنيسة إرشادي بالأساس، هدفه تقديم المشورة ومحاولة الصلح بين الزوجين، لكن حين تصل العلاقة إلى طريق مسدود وتثبت استحالة العشرة، يمكن للجنة المختصة أن ترفع تقريرًا يفيد بذلك.
وشدد فكري على أهمية الدعم النفسي والاجتماعي داخل الكنائس، مؤكدًا أن الكنيسة مطالبة بأن توفر مكاتب مشورة واجتماعات توعوية للأسر، لمساعدتهم على تجاوز الأزمات الزوجية. كما أكد أن الكنيسة يجب أن تقف دائما في صف "الضعفاء والمهمشين والمجروحين"، سواء كانوا نساء أو رجالًا، دون تمييز.
وبشأن ما يثار حول إلزام النساء بالخضوع أو منعهن من الطلاق، قال القس: الكنيسة لا تجبر أحدا على الاستمرار في علاقة خطرة دورها هو النصح والمشورة، وليس الفرض أو الإكراه.
وفي ما يخص إعطاء تصاريح زواج ثانية، أوضح أن الكنيسة تميز دائمًا بين الطرف البريء والطرف المدان: "من ارتكب الخطأ لا يمنح تصريحا، أما الطرف المجني عليه، والذي تراه الكنيسة بريئا، فيُمنح الحق في بدء حياة جديدة".
وفي الختام، أشار فكري إلى غياب إحصائيات دقيقة ترصد حالات الطلاق بسبب العنف داخل الكنائس، لكنه أعرب عن أمله في أن يشكل مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد "مرجعية عادلة" تحفظ حقوق النساء، وتوفر حلولا واقعية للمشكلات المتكررة داخل البيوت المسيحية.
متى تسمع الأصوات؟
تنتظر النساء العالقات أن تفك قيودهن لا بالتمرد على العقيدة بل بإعادة فهمها في ضوء الواقع فهل تستجيب الكنيسة للصرخات؟ وهل يعلو صوت الحياة على صوت النصوص الجامدة؟
الأسئلة تظل معلقة.. تماماً كحياة هؤلاء النساء..
-----------------------------
تحقيق - مادونا شوقي
من المشهد الأسبوعية
نساء معلقات بين العنف والقداسة - صحيفة المشهد الأسبوعية